مثقفون في صف العدو!!
مصطفى الزائدي
اليسار في أمريكا الجنوبية يجدد نفسه ويتخذ مواقف واضحة وقوية من السياسات الاستعمارية الإمبريالية التي ظهرت في أبشع صورها في الدعم الغربي بقيادة أمريكا للعدوان الصهيوني الغاشم على الأبرياء في غزة، فلم تكتف دول أمريكا الجنوبية التي تحكمها أنظمة يسارية بالإدانة والشجب والتنديد، بل اتخذت إجراءات عملية ضد الكيان المعتدي، من إيقاف وتجميد العلاقات السياسية مع العدو الصهيوني إلى قطع العلاقات نهائيا معه، إضافة إلى اتهام الكيان الصهيوني بممارسة جرائم حرب واضحة في غزة باستهدافه المدنيين العزل بقصف المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس وتهديم الأحياء السكنية على رؤوس سكانها.
هذا الموقف ما كان له أن يكون لولا الوعي الثوري العميق في قارة أمريكا الجنوبية في مقارعة الإمبريالية وأنظمة الاستبداد التي نصبتها أمريكا عليها لعقود بل لقرون، فلقد كانت أمريكا تعتبرها مجرد حديقة خلفية تقدم لها المواد الخام والمنتجات الزراعية والعمالة الرخيصة وتستخدمها في إدارة سياساتها القذرة على المستوى الدولي.
السؤال الذي يطرحه الجميع كيف يمكن لهذه الحكومات الموجودة بعيدا عن الوطن العربي وبعيدا عن القضية الفلسطينية وبجوار الطاغوت العالمي الولايات المتحدة وفي إطار هيمنة صهيونية عالمية على الاقتصاد العالمي وعلى الأجهزة الاستخباراتية الدولية، كيف يمكن لها اتخاذ هذه المواقف القوية جدا، بينما دول عربية وإسلامية بعيدة نوعا ما عن القارة الأمريكية ولديها إمكانيات اقتصادية تسمح لها بالاستقلال كيف لا تجرؤ هذه الدول على اتخاذ إجراءات مثل تلك التي اتخذتها دول أمريكا الجنوبية؟ فلننظر إلى الموقف التركي فهو من الناحية اللفظية موقف مقبول ولكن بدون أي شيء عملي، لماذا لم تراجع علاقاتها مع الكيان الصهيوني أو تسحب سفيرها أو تقاطع الكيان الصهيوني فهي من أهم شركائه في المنطقة؟ أيضا لماذا لم تجرؤ الدول العربية على التلميح بالمقاطعة الاقتصادية وإيقاف النفط والغاز وهو مؤثر جدا على مسار المعركة؟ لماذا لا تقوم باكستان والهند وإندونيسيا وماليزيا وهي دول كبيرة جدا وبها أغلبية إسلامية – ففي الهند أكثر من ربع مليار مسلم – باتخاذ أي إجراء، والكلام يسري على الدول الإفريقية فمواقفها ضعيفة جدا؟ هذا سؤال مهم جدا، هل ذلك نتيجة الخوف أم نتيجة عدم الوعي أم لأسباب أخرى؟
إن بعض الدول البعيدة عن الصراع قد تتذرع بموقف العرب ويقول قائلها “إذا وجدت رب البيت بالدف ضاربا…”، فالدول العربية تكتفي بتصريحات ركيكة ولا تستطيع عقد قمة في وقت مناسب، ولا أن تساعد في وقف العدوان، وتتماهى مع العدو في تبرير جرائمه، وبعضها يعتبر المعركة سببها عملية كتائب القسام في طوفان الأقصى، ولا يذكرون العالم بأن تلك العملية لكتائب القسام إنما جاءت ردا على استهتار مهين بالمسجد الأقصى والمقدسات وعبث بأرواح المدنيين وإطلاق يد الاستيطان ومعاناة الأسرى واقتحام جنين ونابلس وحصار غزة.
المشكلة في تقديري ثقافية عند اليسار والتقدميين العرب والمسلمين، فلم تواكب حركة التحرر العربي السياسية حركة فكرية وثقافية، وعلى العكس نجح العدو والغرب والمستغربون في التشويش على الخطاب التحرري التقدمي في المنطقة العربية، رغم ظهور إرهاصات مهمة في بداية منتصف القرن الماضي وحراك نهضوي كبير ومحاولات لتعميق الشعور بالاستقلال والحرية والقومية والوحدة والعدالة الاجتماعية والمساواة، لكن الغرب وأذنابهم نجحوا في إبقاء أو إحياء خطاب آخر مناقض لهم، يسفه قضايا الاستقلال والثورة والكفاح والمقاومة، أحدث خلطًا لدى الشباب في هذه المفاهيم، حتى أننا نجد من يمجد الاستعمار الغربي إلى اليوم، ومن يمجد النظام الملكي المتخلف، ومن يشوه المقاتلين ضد المستعمر، ومن يروج حضارة الغرب وأهميتها ويدعو لمفاهيم الحرية المزدوجة لديه، وعندما تسأله اليوم إذا كان في الغرب ديمقراطية وحرية وحق التعبير، فلن يجيب، حرية التعبير في الغرب لهم فقط وعلينا فقط!! وهي مجرد كذبة بيضاء يريد بها الغرب أن يثبت وجوده في عقولنا ويحبط عزائم المثقفين التقدميين.
في تقديري خطاب التنوير في الوطن العربي فشل في أن يوجد نفسه في القاعدة الشعبية العريضة بسبب وجود خطاب آخر يطبل للعدو مرتبط بالخطاب الاستعماري، داع للتبعية ويمجدها، يروج للصهيونية، وذلك واضح في خطابات التطبيع التي تحاول تبييض صفحة الكيان وتعطيه الحق في كل شيء.
هذا أحد الأسباب المهمة التي منعت الحركة الشعبية القوية في الوطن العربي من فرض طلباتها على منظومة الحكم المرتبطة بالعدو الصهيوني، وهو نتيجة الدور الخطير الذي لعبه المثقفون المزيفون الذين يزينون الكذب ويخدعون الناس ويروجون للاستعمار والتبعية، ويضخمون قدرة العدو رغم ضعفه، يحاولون بث الرعب في قلوب العرب والمسلمين، فهل سينطلق من معركة غزة خطاب عربي ثوري يعيد الأمور إلى نصابها؟