مقالات الرأي

طوفان الأقصى بين شجر الزيتون وحقائب السفر وتيجان الخشب

محمد جبريل العرفي

ما بعد يوم الثأر 2023 ليس كما قبله، ثأر الشعب الفلسطيني للكرامة التي أهينت، والأرواح التي زُهقت، والأرض التي سُلبت، والإرادة التي خارت، والأصنام التي تألهت، والجرذان التي استأسدت.
طوفان الأقصى أعادنا لأجواء الفالوجة التي كانت سببا أساسياً في ثورة يوليو الأم وما لحقها من ثورات تحرر عربي، ورغم التآمر على تلك الثورات وإسقاط أنظمتها واغتيال رموزها، فإن مشاريعها باقية في الوجدان العربي.
طوفان الأقصى أظهر ثلاث حقائق تحكم ما يجري في المنطقة:
أولها: أن الشعب العربي الفلسطيني متشبث بأرضه كأشجار زيتونه المتجذرة في الأرض، فرغم مرور ثلاثة أرباع قرن على النكبة ففلسطين لم تُنس، واستمر ظهور قوافل تضحي راضية، وتستشهد مقبلة، مما فند نظرية الصهيوني بن جوريون الذي قال: “الكبار سيموتون والصغار سينسون”، الأجيال التي لم تشهد بداية نكبة 48 سجلت بطولات خارقة، لأنها تدافع عن أرض تكتسي عندهم بالقداسة، ولهذا قاموا بعملية اكتساح شبيه باكتساح (تيد) الذي قام به (الفيتكونج)عام 1968 وكسروا به شوكة الطغيان الأمريكي الذي ألقى 5 أطنان متفجرات على رأس كل فيتنامي، ومع هذا انتصرت فيتنام وتوحدت وسميت سايغون (هوش منه).
وثانيها: أن المحتلين الصهاينة اقتنعوا بأن هذه ليست أرضهم، فجيل الصهاينة الأول كبيريز وشارون وبن جوريون وجولدا مائير ودايان وغيرهم انتهى ولم يظهر جيل جديد يؤمن بنفس المشروع، ويقاتل عن قناعة بل كثير منهم رحلوا أو جهزوا حقائبهم للرحيل إلى مواطنهم الأصلية، فكما يحتفظ الفلسطينيون بمفاتيح بيوتهم يحتفظ هؤلاء بجوازات جنسياتهم المزدوجة. تراجعت فكرة الصهيونية بسبب الصراع الداخلي الداخلي بين المتدينين والعلمانيين، المتدينون الذين أعفو من التجنيد ومن دفع الضرائب ومتفرغون لدراسة التوراة. لكنهم الآن انتقلوا من الدين إلى السياسة، دخلوا الكنيست وشكلوا حكومة ستفجر الكيان من الداخل وتحولها إلى طالبان صهيونية، الشعب منقسم داخليا بين حكومة فاسدة متطرفة وجيش غير مستعد للقتال، بينما يسعى لاستعادة الهيبة بمزيد من قمع الفلسطينيين وبالتحرش بإيران، فمن شدة رعبهم ها هو رجل واحد جعلهم يقفون على أطراف أصابعهم ليسمعوا لما يقوله.
وثالثها: فلسطين وحدت مواقف الشعب العربي، الشعب يغلي، بينما كثير من الحكام بين خائن وخائف وخائر، كثير من الحكام العرب عاجزون عن مجرد توصيل شربة ماء أو جرعة دواء لأهلنا في غزة المحاصرة، بل قرأنا توجيهات لبعضهم بمنع مجرد التظاهر أو التطرق في خطب المساجد لفلسطين، وقرأنا فتاوى لتحريم التظاهر بدعوى منع الاختلاط، وآخرون أشاعوا أكذوبة طاعة ولي الأمر، التي هي تحريف صارخ لنصوص القرآن الكريم، فالقرآن قال: “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” وكلمة أولي الأمر يعني المتخصصين فيه، لأنه دين العقل والعلم والحكمة. وحتى لغةً فالمعنى مختلف فجمع ولي أمر هو أولياء أمر وليس أولو الأمر، كما تناسى فقهاء السلاطين قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) “أفضل الجهاد كلمة صدق في وجه سلطان ظالم”، بمعنى أنه قدم قول الحق عن فريضة الجهاد. والطامة أنهم مصرون على إذكاء الفتنة الطائفية بين المسلمين. الآن نحن نواجه عدوا يستهدف وجودنا جميعاً، فإذكاء الصراع السني الشيعي في هذا الوقت خيانة للإسلام والعروبة.
(النتن ياهوا) فضحهم فقال: “إذا انتهينا سيكون الدور عليكم” أي أن بقاء هؤلاء الحكام مرتبط ببقاء هذا الكيان، وهذه فيها كثير من الحقيقة ولكن بشكل معكوس فأحد أسباب إطالة عمر الكيان هم هؤلاء الحكام. لكن هناك حكومات اتخذت مواقف مشرفة ومتناغمة مع طموحات شعبها، على رأسها مصر التي تؤمن بأن فلسطين مجال حيوي لها، ولهذا تتعامل مع الوضع بمهارة عالية، واتخذت مواقف عملية كظهير يعزز صمود المقاومة ويزيد من قدراتها على الردع المادي العسكري ويقوي موقفها السياسي التفاوضي وفتحت صفحات جديدة مع حماس وحزب الله.
ليبيا بعد 2011 تحولت من قلعة قومية تحررية، إلى دولة عميلة مستباحة يحكمها مرابٍ ويحميها ميليشياوي ويفتيها زنديق، كنا نظن أن القوة التي جهزتها حكومة النهب ستتوجه إلى فلسطين وإذ بها تقصف غريان، لا نستبعد أن ذلك بإيعاز من الغرب، كما أن تحريك محاكمة خلية حماس في هذا التوقيت لخلق فتنة ولتشتيت الانتباه بعيدا عن غزة وشق الصف المتراص وراء المقاومة، نسي هؤلاء أن ليبيا كانت داعمة للمقاومة، فتنظيم الجهاد في فلسطين أسسه الشهيد فتحي الشقاقي بدعم من ليبيا.
الحرب الآن حرب تحرير، لا مكان للصراع الطائفي فيها، فالمسيحيون اتحدوا كاثوليك وبروتستانت لينقذوا قاعدتهم المحتلة لبيت المقدس، نحن كسنة وشيعة أولى أن نتحد للدفاع عن مقدسات المسلمين. لكن ما يجري عند البعض هو عمالة ومتاجرة في الوطن، الذي هو كالمتاجرة في الفحم يسود الوجه واليدين.

زر الذهاب إلى الأعلى