خطر الميليشيات
محمد بوخروبة
مهما اشتدت المحن تبقى القوات النظامية والتي تتمثل في القوات المسلحة العربية الليبية هي صمام الأمان وطوق النجاة من عبث العابثين، وهو ما يميز القوات المسلحة والجيش النظامي عن غيره من المؤسسات الوطنية ويؤهلها للقيام بالحفاظ على الوطن ووحدته.. فمهامها وواجباتها وفق قوانينها وتشريعاتها، فهذا الواجب المقدس يجعلها تقدم كل غال ونفيس في سبيل حماية الأرض والسلم الاجتماعي، لتصبح بذلك حاجز صد لأي محاولة لتفتيت الوطن والمواطن، فهدف القوات المسلحة النظامية ليس حكم الشعب بالقوة، بل استعادة الدولة من إرهاب الميليشيات، فما مصطلح الميليشيا؟
تطرح سيادة الميليشيات على كثير من المساحات في الدول العربية وفى جزء من وطننا الحبيب، وأحياناً على مدن شديدة الأهمية السياسية والاقتصادية والتاريخية، أسئلة كثيرة عن مآلات أي حراك اجتماعي أو طرح نظري في ظرف كهذا، في النهاية يمكن لسلاح رخيص يحمله مراهق أن ينهي كل جدل أو مشروع أو نمط حياة.
فهي تشير إلى جماعة مسلّحة غير نظامية، والأهم أنها غير دائمة، بمعنى أن عنصر الميليشيا تاريخياً هو فرد غير محترف للعمل العسكري، قد يحمل السلاح في ظروف ما ويستثمر هذا السلاح للابتزاز والمراهنة والمتاجرة بحياة من هم في نطاق سيطرته، إلا أن الحالة العربية والليبية تجاوزت كل هذه الإشكاليات، بالمعنى السلبي لا للتجاوز فهي تقوم على تأبيد الحالة الميليشياوية، بمعنى أن حمل السلاح لا يعد أمراً موسمياً بل دائماً، كما أن المسلحين لا يخضعون ولا يهتمون أصلاً هم ومؤيدوهم بأي قانون أو سلطة سياسية أو شرعية مجتمعية، نحن أمام قوات ميليشاوية في كثير من الأحيان، لكنها ليست في الوقت نفسه جيشاً نظامياً، ولا يمكن العودة إلى أي مؤسسة اجتماعية لمحاسبتها، أو حتى مناقشة قراراتها، ولهذا انعكاسات كبيرة ليس فقط على الحياة المدنية، بل أيضاً على المفاهيم العامة للسياسة والحق والتواصل الإنساني، يمكن القول إن الميليشياوية دخلت في ثقافتنا المعاصرة، وصارت عاملاً أساسياً في تشكيلها، ما أهم انعكاساتها على مفاهيمنا الأكثر أهمية؟ وهل يكون التفكير بأفق خارج الميليشيا؟
لدى البحث عن أي مستند لشرعية الميليشيات التي قد تكون حاكمة لمساحات ومدن يُعدّ سكانها بالملايين، لن نجد غالباً لدى التنظيمات المسلّحة ومؤيديها أي شيء يمكن الاعتماد عليه، اللهم إلا بعض الصيغ الإنشائية التي تبدو جانباً من حكاية شفوية، حتى لو كانت مدوّنة كتابياً، وتنبني غالباً على ألفاظ لا يمكن الإمساك بها مثل شعب، عدو، أبطال، شهداء، دين، أمة.. إلخ، لا يوجد تأطير مؤسساتي لأي من هذه الألفاظ، بل حتى لا يوجد سياق نصّي واضح لتأويل معناها.
يبدو فتى الميليشيا بين مؤيديه والمنبهرين به، أقرب لبطل سيرة شعبية شفوية، أو مدوّنة بشكل غير موثّق، يُحِقّ الحقَ ويرفع الظلم، والمعيار الوحيد لفعله الذي تكون له دائماً عواقب وخيمة على حياة الناس، إحساسه الداخلي بالعدل، ولذلك غالباً ما ينتقل الناس من الانبهار بأولئك الأبطال الشعبيين إلى الخوف منهم وكراهيتهم، فحياة البشر في مجتمعات معقدة لا يمكن أن تنظّم وفق إحساس داخلي لفتيان مسلّحين في حالة الميليشيات الأكثر تنظيماً وعقائدية، التي قد تمتلك وثائق تأسيسية منشورة وأنظمة داخلية لا يمكن لتلك النصوص أن تصبح قوانين مرجعية للمجتمعات المتنوّعة خارجها، كما لا تعني إلا قليلاً من المنتسبين إلى الجماعة نفسها، وبالتالي تبدو أقرب لتدوينات ذاتية، فيما يدفع البشر من جديد أثمان قرارات وإجراءات تلك الميليشيات، التي لا مبرر شرعياً ومؤسساتياً لها، إلا حكايات عن البطولة.
بهذا المعنى، فربما كان تأييد ذلك النوع من الجماعات مهما بدت حكاياتها مبهرة وعادلة، أقرب للأميّة السياسية، بمعنى شبه حرفي، إذ لا يمكننا أن نقرأ فعلاً أي مستند موثّق حاز نوعا من المصادقة الاجتماعية، يُمكّننا من مناقشة ومحاسبة أفعال وقرارات الميليشيات التي ستؤثر بالتأكيد على حياتنا وأهدافنا، إلا أن الأمر لا يقتصر على الأمية، فالسرد الغائم والتدوين الناقص غير المُصادق عليه بأي آلية شرعية، يجعل من المسلّح سواء كان منفلتا أو عقائدياً أو الاثنين معا، صاحب السيادة المطلقة، ويجعل حكمه حالة استثناء دائمة تردّ البشر دائماً إلى الوضع غير الطبيعي، أي تجعلهم أجساداً انتُزع عنها الحد الأدنى من الضمانات القانونية والأخلاقية، معذّبة وممزّقة أو مشرّدة، غالباً يتحكّم بها المسلّحون أنفسهم، ربما يبرر كثير من أنصار الميليشياوية بأنهم ملزمون بالمحافظة على الأمن والسلم في المساحات التي يتحكمون بها، وهم لا يتورّعون عن ارتكاب انتهاكات شديدة ضد المدنيين، إلا أن الاستثناء الدائم لم ينشأ نتيجة الفراغ الأمني مثلا، بل هو أساس سيادة الميليشيا.
ربما كان الاستثناء الدائم في حكم الميليشيات، أكثر أشكال السيادة وحشية وعبثية في الوقت نفسه، فإذا كان جانب من النظرية السياسية المعاصرة، يعتبر الاستثناء معجزة السيادة المتضمنة في قلب القوانين الحديثة نفسها، فإن استثناء الميليشيات التي لا قانون لها، مهزلة السيادة التي تجعل من مجرّد الإحالة إلى حكايات مبتذلة مبرراً لتدمير حياة البشر.