مقالات الرأي

سياسة دعم المحروقات في تقرير ديوان المحاسبة بين الأخذ والرد

محمد أحمد الشحاتي

‎مرة جديدة وتقرير جديد، وجولة جديدة من النقاش والجدل، أناقش في مقالتي هذه المنهجية التي اعتمدها التقرير والنتائج والتوصيات التي خرج بها.
‎في البداية أود أن أركز على نقطة منهجية في التقرير، فهناك فرق واسع بين المحاسبة والاقتصاد.
‎المحاسبة هي الدراسة المتحفظة للبيانات المالية المسجلة في الدفاتر، بينما الاقتصاد هو الدراسة المفتوحة لتوظيف البدائل.
‎وفي هذا الخصوص فإن الديوان يبدو أنه لا يرسم خطوطا واضحة بين الاثنين، لذا جاء تقريره عن موضوع المحروقات غير متماسك عمليا ومليء بالفجوات اللامنطقية.
‎الديوان تقوم فرضياته في موضوع المحروقات على مبدأ “تكلفة الفرصة البديلة” الاقتصادي، وهو انحراف كبير عن المنهج المحاسبي الذي كان ينبغي أن يلتزم به. وفي تطبيقه لمبدأ “تكلفة الفرصة البديلة” الذي طبقه بطريقة متحيزة لتثبت فرضياته المسبقة.
‎ففي فرضية زيادة الاستهلاك ‎يقول الديوان صفحة (38) في معرض استنتاجه عن عدم انتظام الاستهلاك في العامين 2021-2022 لكميات المحروقات إن هذا ‎”يعطي مؤشرات خطيرة على وجود طفرة غير منطقية يستوجب الوقوف عندها”.
‎ما يعتبره الديوان طفرة غير منطقية هو سلوك عادي إذا ما رجع كاتب التقرير إلى تطور الأسواق العالمية، فالانحناء إلى أسفل في منحنى الاستهلاك في الفترة 2020-2021 يرجع أساسا إلى “أزمة كورونا” التي انخفض فيها الاستهلاك على الطاقة ليس في ليبيا فقط، بل على مستوى العالم وبنسب أكثر بكثير في الحقيقة من ليبيا. إذا ما استمر الاتجاه العادي للنمو فإننا في سنة 2022 سيكون الاستهلاك أكثر من المحقق في السنة.
‎الزيادة المنتظمة في استهلاك بنزين السيارات هي 5 % سنويا، والديزل 8 % سنويا نتيجة للنمو الاقتصادي العادي وبحساب النمو التراكمي من 2018 إلى 2022 فإن نسبة الزيادة تبقى في النطاق المبرر.
‎بالنسبة لبنزين السيارات فإن الاستهلاك المتوقع يجب أن يؤسس على عدد السيارات المسجلة في ليبيا، وتشير الإحصائيات إلى أن عدد السيارات المسجلة في ليبيا هو 3.5 مليون سيارة، وإذا ما افترضنا أن هناك 3 ملايين سيارة فقط عاملة وأن كل سيارة تحتاج في المتوسط إلى 40 لترا في الأسبوع وهو ما يمكنها من قطع مسافة تصل إلى 400 كم فإن إجمالي الاستهلاك من بنزين السيارات سنويا في ليبيا سيكون 5.6 مليون طن، وعليه فإن الرقم المسجل في 2022 وهو 4.939 مليون طن إذا ما تم إضافة البنزين المنتج محليا يعتبر في حدود المعقول.
‎وفي حسابه للمحروقات المنتجة محليا ‎يقول الديوان في صفحة (37) إن الوقود المنتج محليا عن طريق تكرير النفط الخام بالمصافي المحلية يكلف 19 مليار دينار أو 3.9 مليار دولار. لا شك أن الديوان يستعمل في هذا التقييم مبدأ “تكلفة الفرصة البديلة” بمعنى أنه يفترض أن هذه الكميات كان ينبغي أن تحقق هذا المبلغ في حال تصديرها للأسواق العالمية بدلا من استهلاكها محلياً. هذا يتعارض مع المنهج المحاسبي الذي ينبغي أن يتبعه ويلتزم به فتكلفة الفرصة البديلة مفهوم اقتصادي في مجال التوظيف الأمثل للموارد وليس حسابات الموارد. التكلفة الفعلية للبرميل المكرر في ليبيا لا تتجاوز 20 دولارا، بينما ما يفترضه الديوان في المتوسط هو سعر 100 دولار للبرميل. وبحسبة مبسطة فإن التكلفة الدفترية وليست البديلة للوقود المنتج محليا لا تتجاوز 4 مليارات دينار ليبي و816 مليون دولار.
‎بالنسبة للغاز الطبيعي فالديوان يشير إلى أن التكلفة البديلة (بالسعر العالمي الذي لم يفصح عنه) هي 19 مليار دينار أي 3.9 مليار دولار. وبحساب أن الكمية المستهلكة في توليد الكهرباء 10 مليارات متر مكعب كما ذكر الديوان والقيمة 4 مليارات دولار فإن السعر الذي استخدمه الديوان للغاز المستهلك محليا هو 12 دولار/مليون وحدة حرارة بريطانية. ولا أود الدخول في جدل حول أن هذا السعر مبالغ فيه جدا، ولكن يمكن إعطاء مثل مقارن حول السعر المحلي للغاز الطبيعي في الجزائر مثلا وهي تشترك معنا في الجغرافيا والموارد وهو 1.20 دولار/مليون وحدة حرارة بريطانية، أو مصر وهي دولة مقارنة أيضا وسعرها 3.2 دولار/مليون وحدة حرارة بريطانية. ولنكن واقعيين ونأخذ الوسط 2 دولار/مليون وحدة حرارة بريطانية، وهذا يعني 750 مليون دولار كتكلفة دفترية.
‎الديوان هنا يقول إن قيمة إجمالي استهلاك المحروقات يصل إلى 82.9 مليار دينار أو 17 مليار دولار، بينما القيمة الدفترية لا تتجاوز 52 مليار دينار أي 10.6 مليار دولار.
‎وعلى الديوان أو أي محلل محاسبي إذا ما قرر الخوض في التحليل الاقتصادي أن يتذكر أن احتساب القيمة وفقا لمبدأ الفرصة البديلة ينبغي أن يتم عبر توفر جملة من الاشتراطات منها:
‎- وجود بديل للسلعة التي يتم استهلاكها بتكلفة أقل، فلا معنى أن تبيع السلعة التي تمتلكها بتكلفة أقل لتذهب وتشتري السلعة نفسها أو بديلها بتكلفة أكبر، هذا ينطبق مثلا على الغاز، فإذا ما اتبعنا نظرية الديوان وتم بيع غازنا في السوق بسعر 12 دولار/مليون وحدة حرارية، فعلينا أن نشتريه من السوق العالمية لتغذية محطات الكهرباء بسعر 15 دولار/مليون وحدة حرارية كغاز طبيعي مسال.
‎- عدم وجود تأثير جانبي على النمو الاقتصادي نتيجة التضخم في أسعار السلع الأخرى أو التباطؤ في الاستهلاك، وهذا واضح من التباطؤ الذي حدث نتيجة أزمة كورونا حين انخفض استهلاك البنزين أو الديزل نتيجة إيقاف النشاط الاقتصادي.
‎- أن تكون البنية التحتية جاهزة للتبديل، مثلا أن تكون هناك بنية تحتية جاهزة لتصدير الغاز الطبيعي أو تكون هناك وسائل مواصلات عامة لتحل محل النقل الخاص بكلفة أقل، مما يزيد المرونة في الطلب على السلعة.
‎- لا بد من التشديد أني هنا لا أتحدث على “الدعم” من ناحية مواصلته أو رفعه أو تحويله نقديا وهو موضوع مستقل بذاته يمكن أن يتم تناوله في مقال آخر.
‎وفي هذا الصدد فإن قيمة الدعم الدفتري تساوي:
‎(52 مليار دينار “إجمالي فاتورة المحروقات الدفترية” ناقصا منها 944 مليون دينار إجمالي التحصيلات من المواطنين = 50 مليار دينار).
‎هذا يعني أن نصيب الفرد من الدعم هو 595 دينارا شهريا أي 2970 دينارا شهرياً لأسرة متوسط أفرادها خمسة أشخاص”، وهذا سقف لا تستطيع الحكومة توفيره للمواطنين وفقا لهيكلية الإنتاج والتوزيع الحالية للمحروقات في ليبيا من الناحية الدفترية، وفي حال تطبيق مبدأ “تكلفة الفرصة البديلة” فرب الأسرة سيتعين عليه دفع متوسط فاتورة شهرية للمحروقات عند سعر 100 دولار/للبرميل و12 دولار/مليون وحدة حرارة بريطانية تصل إلى 1200 دينار (700 دينار بنزين و500 دينار كهرباء). هذا مقابل ما استنتجه الديوان بأن نصيب الفرد 1000 دينار والأسرة 5000 دينار مع عدم إشارته إلى ارتفاع فاتورة المحروقات على المواطن.
‎هناك مشكلة حقيقية في التقدير الخاطئ للديوان لنصيب الفرد من الدعم للمحروقات فهو يفرض بذلك مؤشرا لزيادة متوقعة في المرتبات بقيمة 5000 دينار شهريا إذا ما افترضنا أن كل رب أسرة موظف، وهذا غير حقيقي وغير ممكن، وهناك فرضيات خطيرة جدا في هذا الاتجاه تعني أن يتم قفل المصافي الوطنية ليتم تصدير النفط الخام، ويتم قفل التزويد المحلي بالغاز الطبيعي لتصديره إلى الخارج كسوق بديل ذي سعر مرتفع لهدف واحد وهو تحقيق 5000 دينار شهريا لرب الأسرة، صحيح قد يرفع هذا دخل الحكومة بشرط بقاء أسعار النفط ثابتة في الأسواق الدولية ولكن هناك مخاطرة كبيرة، فإذا افترضنا مثلا انخفاض الأسعار العالمية للنصف وهو احتمال كبير فإن هذا سيخفض نصيب رب الأسرة إلى 2500 دينار شهريا، فهل ستستطيع الدولة حينئذ خفض المرتبات بنفس النسبة، أم ستضطر الدولة إلى تخفيض قيمة الدينار الليبي مرة أخرى لمعادلة التخفيض في السعر.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى