البعد الاقتصادي لمذابح غزة وتهجير أهلها
عثمان يونس
إن الاعتقاد بأن ما حدث في السابع عشر من أكتوبر الجاري بهجوم فدائيي حماس على القواعد والمستوطنات الواقعة في غلاف غزة ليس السبب الرئيسي الذي حرك الحرب التي شنها الكيان الصهيوني المحتل على غزة وقتله الفلسطينيين فيها دون هوادة.
إن متابعة الأحداث التي تتسارع والمجازر التي ترتكب بحق أطفال ونساء غزة ووقوف العالم متفرجاً وكأنما يشاهد فيلم رعب لا يتطلب إلا الصمت المطبق لمتابعة أحداثه المأساوية، ستصل بنا إلى حقيقة أن هناك أبعاداً أخرى لهذا الإجرام، وأن مبرراته التي تسوقها آلة الإعلام الأمريكي والغربي ليست إلا ذراً للرماد في العيون وتمديد حالة الحرب لقتل المزيد من الأبرياء، وبالتالي زرع فكرة استحالة العيش على هذه الأرض، والحل في البحث عن أرض بديلة لخدمة أهداف العدو الصهيوني في إعادة بسط سيطرته على القطاع.
والسؤال الذي يبقى ملحاً هو إن كانوا يريدون الرجوع للهيمنة على القطاع فلماذا خرجوا منه في الخامس عشر من أغسطس من العام 2005؟
إن إجابة هذا السؤال تتطلب إدراك مدى كلفة بقاء قطعان الصهاينة في القطاع خلال الفترة ما قبل العام 2005، وما مكاسبهم في العودة إليه اليوم.
لقد كانت الدولة اللقيطة تتكبد خسائر اقتصادية باهظة فترة احتلالها للقطاع بدءا من عام النكسة 1967 وهو عام اجتياحها للقطاع وحتى 2005 وهو عام خروجها منه، وذلك باحتساب ما يتطلبه جهوزية أفراد جيشها من نفقات داخل القطاع وكذلك خسائرها من العمليات الفدائية التي تشنها المقاومة على تمركزات العدو وآلياته فضلاً عن خسائرها البشرية التي كانت تسبب إرباكاً في الشارع الإسرائيلي وتشكك في حكوماته المتعاقبة، الأمر الذي يؤكد البُعد الاقتصادي للانسحاب من القطاع في العام 2005 لإيقاف هذا النزيف المادي والبشري، وعملت حكومة الاحتلال كبديل عن ذلك على حصار القطاع وخنق من فيه وذلك من خلال إنشاء أسوار اجتزأت القطاع عن باقي الأراضي الفلسطينية لضمان عدم خروج سكان القطاع إلا من خلال معابر تديرها حكومة الاحتلال.
أما الشطر الثاني من الإجابة فيتعلق بقرار العودة لاجتياح القطاع في هذا التوقيت الذي قد تكون عملية طوفان الأقصى قد سرعت من وتيرة اتخاذه وهو متعلق بالبُعد الاقتصادي الذي فرضته المرحلة، إذ إن الاستكشافات الأخيرة في البحر المتوسط المقابل لسواحل لبنان وفلسطين المحتلة بما فيه ساحل غزة قد أكدت مؤخراً احتواءه على كميات اقتصادية من الغاز، وهو الأمر الذي أفضى إلى نزاع سياسي وصل إلى ردهات الأمم المتحدة بين لبنان والكيان الصهيوني المغتصب فيما يعرف بأزمة حقل “كاريش” وهي أزمة بدأت منذ العام 2011 بسبب اكتشافات الغاز في المنطقة وعولجت بتدخل الأمم المتحدة في العام الماضي 2022، وبالتالي فإن المنطقة المقابلة لسواحل غزة هي أيضاً منطقة واعدة بالاستكشافات سواء على مستوى إنتاج النفط أم الغاز، الأمر الذي أضحت معه مسألة إبقاء القطاع خارج دائرة الاحتلال والاكتفاء فقط بالحصار المفروض عليه يضعف إمكانية تأمين أي استثمارات مستقبلية في المنطقة، وبالتالي كان لزاماً حسب خطط العدو باستهدافه لموارد المنطقة أن يُعجل من سيطرته الكاملة على القطاع.
الأمر الآخر الذي كان عامل ضغط على حكومة العدو لتسريع مهمتها في القطاع تلك المعلومات التي تداولتها تقارير صحافية عن “مشاورات بين الكيان المحتل والإمارات بشأن حفر قناة مائية جديدة تربط بين البحرين المتوسط والأحمر، مماثلة لقناة السويس المصرية”، وهو ما تسبب بغضب مصري، بسبب أن القناة المقترحة يمكن أن تشكل تهديدا مباشرا لمصالح مصر في الملاحة المائية بالمنطقة، كما أنها يمكن أن تؤدي إلى خفض إيرادات قناة السويس، التي تشكل مصدرا مهما للدخل من العملة الصعبة للاقتصاد المصري.
هذه القناة المفترضة تنطلق من ميناء “إيلات” وحتى ميناء عسقلان المحاذي لشمال غزة وتبعاً لذلك أصبح من المهم للحكومة الصهيونية في حال أرادت تنفيذ المشروع القيام بتأمين خط القناة وإبعاده عن أي خطر قد يعيق تنفيذه أو يسبب مشاكل أمنية بعد التنفيذ، وبالتالي فإن اجتياح غزة أصبح من ضروريات الأمن للعدو الصهيوني.
من هنا ندرك جيداً أن هناك بُعداً اقتصادياً من وراء ما يحدث في القطاع اليوم من ترويع للآمنين وتقتيل للأطفال والنساء والشيوخ لحملهم على الهجرة من غزة إلى أي دولة أخرى وهم يعرضون سيناء كأرض بديلة، كل ذلك لإفراغ القطاع من أهله لتحقيق مآرب أمنية واقتصادية، وهذا البُعد الاقتصادي بالتأكيد تقصد الإدارة الصهيونية من ورائه تعظيم مواردها من جهة ومحاربة الدول العربية في مصادر دخلها من جهة أخرى.