ملفات وتقارير

اللواء أحمد المسماري في حواره مع «الموقف الليبي»:فيضانات درنة جرح في قلب الوطن والجيش والشعب قدما ملحمة من التضحية والفداء

متابعة: محمد أبو بكر المعداني
في الأزمات والكوارث يتضح سلوك الإنسان، يظهر على حقيقته، في هذه الكارثة الإنسانية التي حلت بمدينة درنة الزاهرة، وهذا الحدث المروع بتاريخنا اتضح معدننا الأصيل، اتضح لشعوب العالم بأسرها المعدن النفيس للشعب الليبي، العديد من الصحف الإيطالية تناولت موقف “الشايب الذي خلع جرده من على جسمه النحيل” ليفزع به لأهله في درنة التي تبعد عن منطقته مسافة 1300 كيلومتر.
البيوت التي شرعت أبوابها لاستقبال النازحين في كل مدن وقرى بلادنا بدون مقابل جسدت اللحمة الوطنية وعبرت عن المؤازرة والإخاء، هذا المصاب الجلل الذي أدمى قلوبنا وأوجع خواطرنا وهزنا من الأعماق أوضح النخوة والمروءة والكرم والشجاعة عند الكثير من أبناء الوطن، أوضح الإيثار والتضحية في أصدق معانيها.
ثم تنادى شبيبة الهلال الأحمر والكشافة ومنظمات المجتمع المدني من أغلب المدن الليبية للمشاركة في هذا الواجب الوطني والإنساني، ووصلت بعض الكتائب العسكرية من المنطقة الغربية إلى أرض درنة، والتقت مع الجيش الليبي لقاء الأخوة وقفوا جميعا في خندق واحد حينما أدركوا أن خطرا حقيقيا يحدق بمدينة من مدن ليبيا ويتهدد مستقبلها.
جاءت فيضانات درنة لتجرف النَزعات الجهوية والقبلية وتكسر جدار الانقسام وتكشف عمق الترابط الاجتماعي والوجداني بين أبناء الوطن الواحد، وبضمير حي وفزعة صادقة غايتها تقديم يد العون والمساعدة لأهل درنة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه اجتمع الليبيون من الشرق والغرب والجنوب في مدينة تنعدم فيها وسائل الحياة، حيث لا كهرباء ولا وسائل اتصالات ولا ماء صالح للشرب، هبوا لها هبة رجل واحد مدنيين وعسكريين محملين بقوافل الإغاثة والمساعدات الإنسانية، شعر كل منهم بمسؤوليته تجاه أخيه الذي تعرض لمحنة قاسية، وهذا ما جسد حديث رسولنا الكريم سيدنا محمد عليه أشرف الصلاة والسلام (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

لتسليط الضوء على دور الجيش في كارثة درنة الناتجة عن الإعصار “دانيال” والتي أزهقت أرواح آلاف البشر “نحتسبهم عند الله شهداء”، ومسحت معالم بعض مدن الشرق الليبي، وتكريما لهؤلاء الأبطال الذين سيخلدهم التاريخ بأحرف من نور بعد أن ذهبوا للموت بأقدامهم وضحوا بأرواحهم فداء للوطن، نلتقي مع اللواء أحمد المسماري الناطق الرسمي باسم القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية ومدير إدارة الإعلام والمتابعة.
سيادة اللواء أحمد، نرحب بك عبر “صحيفة الموقف الليبي”، ونود أن تحدثنا عن المهام التي تولاها رجال الجيش بعد أن أصبح خطر الطبيعة يتهدد الشرق الليبي وعن الأعمال الجليلة التي نفذوها بعد أن عصفت رياح دانيال المدمرة بمدينة درنة وانهمرت أمطارها بغزارة وحلت الكارثة.
أولا أهلا وسهلا بك وبصحيفة الموقف الليبي.. حقيقةً دور القوات المسلحة العربية الليبية كان قبل وأثناء وبعد الفيضانات في مدينة درنة ومنطقة الجبل الأخضر بالكامل، هذه الفيضانات التي جاءت على الأخضر واليابس في هذه المنطقة بعد جريان سيول كبيرة جدا ضربت أغلب منطقة الجبل الأخضر ومدينة درنة بالتحديد بعد انفجار السدين، القوات المسلحة قبل الحادثة بـ 24 ساعة أصدرت بيانا رسميا برفع درجة الاستعداد لجميع وحدات القوات المسلحة لتقديم الخدمة والبحث والإنقاذ ومحاولة تخفيف الأضرار قدر الإمكان، برغم إمكانياتنا لا تستجيب لمثل هكذا مخاطر، فإمكانياتنا عسكرية قتالية، ولكن استطعنا بعزيمة الرجال أن ننقذ بعض العائلات والعديد من الأفراد وخاصة في مدينة البيضاء، فقد تم الإخلاء بالقوة لبعض المناطق، والحمد لله نجا كل سكان تلك المناطق، ولكن هناك مناطق أخرى لم تستجب لقرار الإخلاء، وحدث ما حدث في أثناء عمليات البحث.
ملحمة عملية الإنقاذ
وفي أثناء عملية الإنقاذ ساعة الفيضان فقدنا مجموعة كبيرة من جنودنا وضباطنا الذين كانوا يحاولون إخراج الناس وتقديم المساعدة والدعم لسكان مدينة درنة وسكان منطقة تاكنس والبياضة، بعد ذلك باشرنا من الساعات الأولى في عمليات البحث والإنقاذ ورفع الركام بالرغم من أن الساعات الأولى واليوم الأول والثاني كانت صعبة جدا، حيث الرؤية معدومة وجميع الطرق مقطوعة، وكانت السيول تجري بسرعة كبيرة جدا، وتشكلت بحيرات كبيرة جدا في جنوب الجبل الأخضر بمنطقة المخيلي وفي منطقة الميتين أعاقت حركة الآليات، كل التحديات كانت كبيرة جدا والأقوى من هذه التحديات تحدي الصدمة الأولى التي كانت من نصيب القوات المسلحة.
كم عدد رجال القوات المسلحة العربية الليبية الذين استشهدوا في درنة ومدن الجبل الأخضر في مواجهة غضب الطبيعة؟ وما صنوفهم؟

  • طبعا نحن استخدمنا أربعة صنوف من الأسلحة.. القوات البرية والقوات البحرية والقوات الجوية والدفاع الجوي التي كانت تؤمن الأجواء للطائرات التي تحاول الإنقاذ، أما عن عدد رجال القوات المسلحة العربية الليبية الذين استشهدوا في درنة ومدن الجبل الأخضر فقدمنا في هذه العملية بالساعات الأولى 79 شهيدا ما بين ضابط وجندي، ولدينا أربعة مفقودين، بالإضافة إلى الشهداء من وزارة الداخلية، حيث بلغ العدد الإجمالي 94 شهيدا من الجيش والداخلية، كما فقدنا عددا كبيرا من الآليات التي جرفتها السيول، كذلك فقدنا عددا كبيرا من سيارات الإسعاف،
    ولكن استمر العمل بوتيرة قوية حتى تاريخ هذا اليوم، لا نزال في حالة استعداد قصوى، وبعد عملية البحث والإنقاذ هيأنا الظروف المناسبة للفرق الأجنبية والمحلية لوصول الإغاثات لدرنة، وبعد ذلك بدأنا سريعا في محاولة إيجاد طرق بديلة للطرق التي تعرضت للتدمير والقطع، فأنشأنا طرقاً جانبية لإيصال المعونات واستمرار الحركة، والآن بدأنا إعادة ترميم هذه الطرق، والطرق التي تحتاج إلى تغيير شامل، أعتقد أن القيادة العامة بدأت دراسة هذا الموضوع جديا.
    الكاتب والباحث في التراث الليبي الأستاذ أحمد المسماري.. هلَّا تحدثنا عن بعض المواقف التي سطر فيها رجال الجيش ملاحم بطولية تجسد التضحية والفداء واستشهدوا من أجل إنقاذ أرواح بريئة جرفتها مياه السيل الهادر أو قابعة تحت الأنقاض تنتظر الموت؟
  • كما أسلفت بالذكر كانت العملية أكبر من قدراتنا وإمكانياتنا، الشيء الآخر هذه كارثة طبيعية تحدث لأول مرة في تاريخ ليبيا، يعني 405 مليمتر من مياه الأمطار في 6 ساعات يعد رقما كبيرا جدا بمنطقة كان معدل الأمطار فيها حوالي 105 مليمتر في السنة.. هذه الكمية من الأمطار رفعت العبارات، والكباري، والغابات، والتربة، وكل شيء أمامها، ولكن، حقيقة بالنسبة للناحية العسكرية جنودنا كانوا منتشرين في كافة المناطق ابتداء من منطقة بنغازي، كنا نتوقع البداية في بنغازي ثم يذهب شرقا فكنا متجهزين في كل المناطق بكل وحداتنا في المرج والبيضاء وشحات ودرنة حتى في طبرق كنا متجهزين لهذه العملية، ولكن جاء الأمر أكبر وأقوى من أي إمكانيات، أكبر وأقوى من أي تحوطات أمان للإنقاذ، حقيقة الأمر أنا أعتبر وأوجه كلاما رسميا وحقيقيا أن المشكلة تكمن في غياب دولة حقيقية توحد الجهود بعمليات الأرصاد الجوية وعمليات إرسال التحذيرات للمواطنين في إذاعة وطنية، كان من المفترض أن تكون هناك إذاعة وطنية لها صدى ولها ثقة عند المواطن حتى يستمع إلى التحذيرات.
    أعتقد أن نسبة الوعي لدى المواطن كان لها دور سلبي، يعني في بعض المناطق حينما أعطيناهم الإنذار لم يخرجوا، وهناك من خرج وعاد، وهناك من اتهمنا بالسرقة، الناس ليس لديها ثقة في أحد على الإطلاق، ولكن رغم ذلك استمررنا في هذه العملية، جميع شهدائنا كانوا منذ الساعات الأولى في الشارع بجانب المواطنين، يحاولون إنقاذهم، ولكن قدر الله ما شاء فعل، وهذه كارثة طبيعية ينبغي ألا تستثمر سياسيا.
    وقفة رجل واحد
    نحيي رجال قواتنا المسلحة وكل الليبيين الذين وقفوا وقفة رجل واحد، وقد يكون العزاء الأمثل لهذه الفاجعة هو اللحمة الوطنية التي حدثت بين الليبيين جميعا، سواء داخل ليبيا أم خارجها، كل الحواجز التي صنعت من قبل الدعاية والإشاعات الكاذبة ببن الشرق والغرب والجنوب انهارت مع انهيار سدود درنة.
    قد يكون العزاء هو وصول هذه الجموع الباكية إلى مدينة درنة من أجل مواساة إخوتهم ومن أجل دعمهم ومن أجل إنقاذهم، ومن أجل إنقاذ ما تبقى من هذه المدينة وبقية مدن الجبل الأخضر، جميع مدن الجبل الأخضر تضررت، يعني أكثر من 100.000 مواطن يعانون الآن انعدام المساكن، منطقة الوردية تدمرت بالكامل، كذلك مناطق البياضة وقندولة والقيقب ومنطقة سوسة تقريبا نصف المدينة، ومنطقة شحات ،الكثير من المنازل الآن غير صالحة للسكن، مدينة البيضاء حي أو حيان دمرا، أعتقد أن الأمر كبير جدا، ولكن تعاضد الليبيين وشد أزرهم ببعضهم هو العزاء في هذه الكارثة الطبيعية، وليس لدينا ما نقول إلا ما يرضي الله “إنا لله وإنا إليه راجعون”.
    من ضمن المواقف المشرفة للقيادة العامة السماح لبعض الكتائب العسكرية التابعة لحكومة الوحدة الوطنية بالوصول إلى درنة بكل سلاسة والمشاركة في هذا الجانب الوطني والإنساني.. هل لك أن تحدثنا عن ذلك؟ وهل نعد هذا الحدث بادرة طيبة ساعية لتوحيد الجيش الليبي؟
  • أولا من ناحية عسكرية هذه الخطوة تدل على أن الجيش الليبي واحد، أقل شيء واحد في الشعور وفي الإحساس وفي العزيمة، وبمجرد أن حدث ما حدث كانت الوحدات العسكرية تتجهز وانتقلت بشكل مباشر ليس بالبنادق والمدافع والطائرات المسيرة، بل انتقل بالمعاول وبوحدات الإنقاذ والرجال المحملين بجميع أدوات الإغاثة والإمداد الطبي وغيرها من هذه الأمور وهذا يدل على أن الشعب الليبي واحد، وأن ما يحدث بينهم تدابير لأجنبي حاقد إما غازي وإما حاسد، ونحن رحبنا بهم وهم سعداء بالمشاركة، ونحن فرحون بهم أكثر هضوم خوتنا وهضوم هلنا، وحتى داخل البيت الواحد تحدث مشاكل وتحدث صدامات، ولكن عندما يجد الجد وعندما يأتي شيء خارجي هذا البيت يتحول إلى قوة واحدة وحجرة واحدة صلبة، وهذا يدل على أنه ليس بيننا عداء دائم، ولكن توجد أخوة دائمة، وبرغم كل التحديات السابقة وبرغم كل التدابير نحن ذهبنا لطرابلس واجهنا الأتراك وواجهنا الأمريكيين والإنجليز وعدة دول أخرى، كذلك هم واجهوا دولا أخرى، أعتقد أن الأمر أمام الليبيين واضح، ندعوهم للتصالح والتسامح والإخلاص من أجل الوطن، كما ندعوهم للتنازل من أجل الوطن، كما ندعو الليبيين كافة لاستذكار كارثة الجبل الأخضر، وخاصة درنة بمزيد من التلاحم والترابط والمزيد من التسامح.
    منعطفات خطيرة
    سيادة اللواء نشكرك على رحابة صدرك، وهل لك أن تقول لنا كلمة أخيرة؟
  • الكلمة الأخيرة هي أن المنطقة كافة تمر بمنعطفات خطيرة جدا سواء على المستوى العسكري أم الأمني بمدن الجوار، سواء في السودان أم تشاد أم النيجر أم مالي أم بوركينا فاسو، هذه المنطقة بالكامل التي هي الحزام الجنوبي والجنوب الشرقي والغربي لليبيا تشهد صراعات كبيرة لها تداعيات على الوضع الليبي وكذلك المناخ يشهد تغييرات، اليوم شاهدنا أمطارا غزيرة في جبال كالنجا بحدود تشاد لأول مرة وسقطت أمطار غزيرة في جبال هوج وفي جبال السوداء وفي غات واباري في كل منطقة لغاية هون وما زالت هذه الأمطار مستمرة، قد يتطور الأمر وبالتالي أدعو كل المواطنين إلى التحلي بالصبر واليقظة والانتباه، والقضية تعتمد بشكل كبير على مدى وعي المواطن، كذلك وسائل الإعلام في ليبيا يجب أن تتقي الله في شعبها، تتقي الله في وطنها، ولا تقول إلا كلمة حق، وكل قول له رقيب عتيد، يجب أن تتذكروا هذه القاعدة تماما، وألا يستغلوا هذه الأشياء من أجل النيل من خصومهم، بل عليهم أن يستغلوا الإعلام وكل ما يبث في الإعلام من أجل توحيد الوطن وتقديم الدعم النفسي للمواطن للتخفيف من حجم المصيبة وتنبيه المواطن وإعطائه التحذيرات اللازمة، كما أدعو من خلال صحيفتكم إلى إنشاء مركز أرصاد يعطي نشرة يومية عن حالة الطقس تبث في جميع القنوات الليبية، سواء الخاصة أم العامة، من هذا اليوم إلى شهر أبريل القادم.
    الآن منطقة الجبل الأخضر لن تكون مهيأة أبدا للسير عليها إذا جاءت أمطار غزيرة، من الضروري مراقبة الطقس ومراقبة السيول.. نحيي كل الليبيين ونحيي كل القراء، وإن شاء الله يوحد صفوفنا.
زر الذهاب إلى الأعلى