نعم للانقلابات العسكرية في إفريقيا ولا للثورات الملونة فيها
موسى الأشخم
تعتمد القوى المسيطرة على الصعيدين الوطني والدولي التضليل الإعلامي والفكري كأداة لتكريس الهيمنة على القوى الضعيفة. ويستند التضليل على وسائل عديدة غير أن أهمها على الإطلاق العبث بالأولويات، ويؤدي العبث بالأولويات إلى نتائج كارثية تشبه نتائج تحويل الوسائل إلى غايات أو تحويل الغايات إلى وسائل. والأمثلة على العبث بالأولويات عديدة في التاريخ الوسيط والمعاصر، غير أننا سنقتصر على أهم ثلاثة منها:
الأول: تقديم الروايات وأقوال الرجال على القرآن في التاريخ الإسلامي إبان القرنين الثاني والثالث الهجريين أو القرنين السادس والسابع الميلاديين، وما ترتب عليه من القول بأن السنة “الروايات” قاضية على القرآن، والقرآن أحوج إليها من حاجتها إلى القرآن. وبلغت خطورة هذا العبث بالأوليات أن أنتج ديناً موازياً يخدم مترفي المال والجاه والقول في الزمن الإمبراطوري لدولة الإسلام، جعل من القرآن مجرد مصدر ثانوي من مصادر التشريع، واعتبر مدونات الحديث هي المصدر الأول للتشريع. فأوقع هذا العبث المسلمين في شرك التشريع؛ قال تعالى:
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. ووقع هذا العبث حين كانت الغلبة الحضارية للإسلام والمسلمين، وعندما ركن المسلمون إلى الدعة والكسل واللهو وباعوا آخرتهم بدنياهم، وشغلتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسلموا أمرهم لمترفي المال والجاه والقول في العصرين الأموي والعباسي.
الثاني: تقديم الديمقراطية والحقوق النقابية على الاستقلال والسيادة الوطنية زمن الاستعمار الكولنيالي، وهو ما أوعزته النخب المسيطرة على المال والجاه في الإمبراطوريات الغربية إلى الأحزاب والتيارات الماركسية في البلدان الغربية، ثم ما لبثت أن أقنعت تلك الأحزاب والتيارات فروعها في المستعمرات الغربية بتبي تلك الدعوة. وبلغت خطورتها أن ارتفعت أصوات سياسية ونقابية تدعو إلى تغيير وجهة النضال أو الكفاح من أجل تحرير الوطن إلى الاكتفاء بالكفاح المشترك مع المهمشين والمضطهدين في البلدين المستعمِر والمستعمَر، الأمر الذي وضع ظلالا من الشك على وطنية تلك الجماعات والتيارات اليسارية في تلك الحقبة.
الثالث: تقديم الديمقراطية على السيادة الوطنية في موجة الثورات الملونة، وهوما أوعزته النخب المسيطرة على المال والجاه ومراكز التفكير التي أسسوها لهذا الغرض إلى الأحزاب والتيارات السياسية الموالية للغرب في أوروبا الشرقية، وإلى أحزاب المعارضة والجماعات الإسلامية المتواطئة مع الغرب في البلدان العربية في ظل ثورات الربيع العربي. وكان من نتائجها ظهور موجة الثورات الملونة التي كانت مجرد سيناريوهات معدة سلفاً من قبل مراكز التفكير الغربية على نحو عام والأمريكية على نحو خاص. وتولت مراكز التدريب على الديمقراطية تدريب المتطوعين من البلدان المستهدفة على كيفية تحريك وصناعة المظاهرات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وعلى أعمال الشغب في مواجهة الحكومات الوطنية. واستناداً إلى ذلك ضحت الثورات الملونة بالسيادة الوطنية، وباستقلالية القرار السياسي، وباستقلالية الخيارات الأيديولوجية للأمم التي وقعت فيها تلك الثورات، لمصلحة الليبرالية الجديدة. الأيديولوجية التي كرسها الغرب أداةً للإمبريالية الجديدة؛ حيث لا يقتصر دورها على دمج الأسواق الوطنية في السوق الدولي بذريعة العولمة، بل ترمي إلى تحويل العالم إلى إمبراطورية واحدة تدار بأجهزة التحكم عن بعد من البيت الأبيض و”وول ستريت”. ووقع هذا العبث بالأولويات – في الفقرتين الأخيرتين- حين كانت الغلبة الحضارية للغرب، وتكرّس حين سلم الغربيون قيادهم لنبلاء المال والجاه بعد الانقلاب على سطوة نبلاء الأرض أو ما سمي بالإقطاع الزراعي وتكريس الإقطاع المالي محله. ونزع نبلاء المال الغربيون إلى غزو الأمم الأخرى لإخضاعها لسطوة الأوليجاركية الغربية.
وعلى الرغم من أن العالم قد تجاوز مسألة تقديم الديمقراطية والنقابية على السيادة الوطنية في حقبة الحرب الباردة، التي كرست فيها المواثيق الدولية السيادة الوطنية، وقدمتها على الديمقراطية والحقوق النقابية، وأدانت أي شكل من أشكال التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى. غير أنه ما أن انهار الاتحاد السوفيتي حتى انفتحت شهية الغرب الاستعماري للعودة إلى مستعمراته السابقة، وانقلبت الإمبراطوريات الغربية على التشريعات الدولية السابقة، لتجيز لنفسها التدخل في شؤون البلدان الأخرى، بذريعة التدخل لأسباب إنسانية!
واتضح لكل ذي بصيرة لم تجثم على بصره غشاوة المنفعة الآنية والأنانية، أن تقديم الديمقراطية على السيادة الوطنية يذهب بالاثنين معاً، وخاصة حين تكون الديمقراطية في صيغتها الغربية، التي تكرس سطوة النخب المسيطرة على المال والجاه والقول عوضاً عن سطوة الشعب.