ما بين برقن الشاطئ ومدينة الرباط المغربية.. من البداية إلى البداية
أبو بكر خليفة أبو بكر
في قلب الصحراء الليبية تقع قرية برقن الشاطئ، المكان الذي شهد بداياتي في عالم الحرف والقلم وتدرجي العلمي. لا يمكنني نسيان الأرض التي نشأت عليها والبيئة التي شكلتني. إنها قرية صغيرة، ولكنها مكان مميز بسحرها الخاص وجمال طبيعتها المميز. هذه القرية هي مسقط رأسي ومصدر إلهامي، حيث تعلمت الكثير من الأشياء القيمة والمفيدة التي ساعدتني على أن أصبح أكاديمياً وكاتباً وباحثا ومؤلفا.
هي أرض أجدادي، وأنا من ضمن أحفاد أحد شيوخ برقن الشاطئ، الذي كان يشهد له بالفصاحة والصرامة، وبالتأكيد فإن المرء يتأثر بالسير الذاتية لأهله الأولين كما ينقلها أبناؤهم، أو من أهل المنطقة، ويظل يتمثلهم ويحرص على أن يكون في خطواته مقتديا بآثار أجداده ومهتديا بمناقبهم، ويبقى حريصا على هذه الوديعة الثمينة التي تركوها وهي السيرة العطرة التي هي أعظم ميراث.
وهي الأرض التي جعلتني أحب الكتابة والتعبير عن أفكاري بكل حرية وإبداع. فلا أنسى أيام كنت أتنافس وبعض الأصدقاء على اقتناء الكتب من المكتبة القديمة في ثمانينيات القرن الماضي، ونستمتع بإعارة الكتب فيما بيننا بكل لهفة وفرح، وأيضاً حين كنت أحمل معي بعض الروايات العربية والمترجمة وبعض الكتب الثقافية للاطلاع عليها تحت ظلال النخيل، وفوق تلال الرمل الذهبية الفاتنة، ولذلك، فإنني أحتفي دائما بهذه القرية الجميلة وأشكر كل من ساهم في تشكيل شخصيتي (خاصة من أساتذتي في المراحل الدراسية الابتدائية والإعدادية والثانوية) ومنحني الحب والشغف للكتابة والتعبير.
في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، كانت هناك حركة ثقافية نشطة في القرية وفي ليبيا عموماً، وكانت تشرف عليها غالباً وتسير فعالياتها حركة كشفية نشطة، تدير زخماً من الأنشطة الثقافية والرياضية، حيث المسرحيات التي تشد إليها كل سكان المنطقة، وتساهم في لملمة النسيج الاجتماعي، وتقوية أواصر الصداقة والجيرة وتنشر المرح وتجدد الحياة، وكذلك شهدت تلك الفترة تنوعاً في الأنشطة الرياضية، وعلى رأسها الرياضة الأهم كرة القدم، وكان الفريق الذي يمثل المنطقة وهو نادي “الأوسط”، يحظى بمتابعة وحب وعشق أهل المنطقة، ولقد شهد بروز مواهب كثيرة لا تزال تتداول أسماؤهم حتى اليوم، بأهدافهم الجميلة وانتصاراتهم وبطولاتهم على مستوى المنطقة.
في النهاية، لا يمكنني إلا أن أقول كم أنا ممتن لقريتي ومسقط رأسي ومهبط روحي ولكل من يعيش فيها، وكم أنا فخور بأنني نشأت في هذا المكان الرائع، وأتمنى أن ينعم هذا المكان بالسلام والاستقرار دائماً.
حتى عندما كنت هناك على شواطئ المحيط الأطلسي تحديدا في مدينة “الرباط” بالمملكة المغربية، لم تشغلني هذه المدينة التاريخية الفاتنة بوجهها المبهر المعاصر وحسنها الأصيل الكامن في كل تفاصيلها، عن الحنين المتدفق في داخلي نحو قريتي الأيقونة.. حتى قلت في الرباط:
أَنْت يَا رْيَانَةُ الشَّوَارِعِ.. بِفِعْلِكَ الْمَاضِي وَفِعَلَكَ الْمُضَارِعُ.. وَفِعْلُكَ الْمُسْتَقْبَلُ الطَّالِعُ.. أَنْت الْفَاتِنَةُ التي لَطَالَمَا حَلَمْتُ بِأَنْ تَبَيَّنَ لِي وَبِنْتِ.. اِخْتَرْتُ الزَّمَانَ وَبَاغَتْنِي وَكُنَّتِ.. وَمِنْ أُفُقِ الدَّهْشَةِ إِلَى وَجَعِي بَرْزَتِ وَفِي جُرْحِي اضْطجَعَتِ.. يَا رْبَاطِ الْخَيْلِ أَنْت.. مَعْشُوقَتِي أَنْت وَأَلْفٌ أَنْت.. الخ.
ورغم عشق الرباط الخاطف الذي داهمني على حين غرة، ظلت قريتي الأيقونة حبي الأول الذي سرعان ما ينقض على أي حب منافس، وذات شوق جارف ومن على شواطئ المحيط الأطلسي، على مقعد في الطابق العلوي لمقهى مميز في “إقامة الصباح” في مدينة الرباط داهمني حب قريتي الأيقونة، حتى صرت أترنم بكلمات شعبية ألفتها في تلك اللحظة:
في حروفها نغمة ولحن ورنة…
برقن غلاها فوق مالتوصيف
برقن تنطقها تحس ببنة…
غير كيف بنعبر عليها كيف
اللي زينها مافيش واجد منه…
واللي عشقها تكتفه تكتيف
ويبقى يهاتي كان تبعد عنه…
إلا قربها يبي وبلاها يصيف
وهي فخر للشاطي اللي هي منه…
مدينة فقرية للفهم والتعريف
لا يمكنني القول بالضبط إن كانت القرية قد تغيرت كثيرًا منذ مغادرتي إلى ديار الغربة حتى عودتي أم لم تتغير. ومع ذلك، يمكن القول بشكل عام إن الأماكن تتغير بمرور الزمن وتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وشيئا فشيئا تصيب بعضا من التحضر والتمدن أكثر فأكثر، فمن الملاحظ أن هناك تغيرات ملحوظة قد طرأت في القرية، خاصة وقد مر وقت طويل منذ مغادرتي. ومن الممكن أن تشمل هذه التغيرات زيادة عدد السكان، أو تطوير البنية التحتية، أو تغيير في الطبيعة الاجتماعية والثقافية للقرية. وهذه التغييرات قد تكون إيجابية أو سلبية، وقد تتفاوت في درجة تأثيرها على الحياة في القرية، من بين التغيرات الإيجابية التطور الملحوظ من حيث حركة التمدن، ومن حيث التغييرات السلبية شيء من الجفاء الاجتماعي بين السكان ربما هذا يترافق مع التطور الحضري، حيث يضعف قليلا هذا الوازع الاجتماعي، ومع ذلك ما زال هناك قدر لا بأس به من التراحم والتكافل.