الذكرى (الــ 71) لثورة 23 يوليو المجيدة
متابعات ـ علاء أبو زيد
في 23 يوليو 1952 انطلقت حركة التحرر العربي بقيادة جمال عبد الناصر، فلقد كان الوطن العربي خاضعا في أغلبه لسيطرة استعمارية مباشرة، كما في تونس والجزائر والخليج واليمن والقرن الإفريقي وفلسطين والمغرب، أو سيطرة بواجهات محلية معدومة الإرادة كما في الشام والأردن والعراق والجزيرة العربية وليبيا والسودان ومصر، حيث تدار تلك الدول التي تكونت نتيجة توافقات المستعمر على تقاسم مناطق النفوذ والسيطرة. لقد كانت حركة الضباط الأحرار في مصر استجابة لنداءات الشعوب العربية التي أرادت أن تستكمل التحرر من الهيمنة الاستعمارية، فلقد توقع العرب خروجا لدولة عربية بعد التخلص من السيطرة التركية بعد الحرب الأولى فوجدوا أنفسهم في جحيم سيطرة استعمارية بغيضة، وتفاءلوا بأن الحرب الثانية قد تنهي مرحلة الاستعمار وتفتح الباب للاستقلال الوطني، لكن الغرب الاستعماري المنتصر في الحرب عمل على توجيه التحرك الاستقلالي بترسيخ الدويلات التي عمل على إنشائها وإقامة أنظمة عميلة تدور في فلكه!! وهكذا نظرت الجماهير العربية إلى ثورة يوليو المجيدة فارتبطت بها وعلقت آمالا عليها، ولم تخيب الثورة الفتية آمال الأمة فطرحت مشروعا قوميا واضحا لخص في الحرية والاشتراكية والوحدة، أي التحرر من الاستعمار بكافة أشكاله وتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على النظام الإقطاعي الذي فرضه الحكم التركي للمنطقة، ودعت إلى بناء دولة عربية واحدة عزيزة مهابة، فطردت القواعد الأجنبية، وأطلقت العنان لدعم حركات التحرر الوطني.
23 يوليو بعد 71 عاما
تمر اليوم 71 عاما على قيام ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.. وقد أنهت الثورة حقبة الحكم الأجنبي لمصر الذي استمر لقرون من حكم المماليك إلى العثمانيين والفرنسيين، وأخيرا الاستعمار الإنجليزي لمصر الذي استمر 71 عاما منذ عام 1881 حتى عام 1952.
لقد فتحت ثورة 23 يوليو بوابة التحرر الوطني من الاستعمار في الوطن العربي وإفريقيا وآسيا، وأحدثت تغييرات اجتماعية واقتصادية وسياسية هائلة في مصر، حيث قضت على الإقطاع وقاومت سيطرة رأس المال على الحكم من خلال مجتمع النصف في المائة، وأقامت بدلا منه مجتمع الـ 99%، حيث مكنت قوى الشعب العاملة من الاستحواذ على نصيبها من ثروات الوطن، عبر انتهاج سياسات العدالة الاجتماعية وسن القوانين والتشريعات التي تحقق ذلك على أرض الواقع، فكانت قوانين الإصلاح الزراعي في مصر 9 سبتمبر 1952 بعد قيام الثورة بأقل من شهرين، حيث قامت الثورة بتوزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين المعدمين والتي كان يمتلكها قلة من الإقطاعيين أغلبهم من الأجانب والمتحكمين في مصر.
كما قامت الثورة بتأميم وتمصير البنوك والمصارف والشركات الأجنبية العاملة في مصر، وأطلقت ثورة في التعليم مكنت المصريين العاديين من أبناء الفلاحين والعمال من التعليم مجانا، فتم بناء طبقة وسطى واسعة من المتعلمين.
بذلك أرست قيم العدل الاجتماعي وأعلت من شأن مبدأ تكافؤ الفرص، حيث كانت الأولوية في كافة قطاعات الدولة للكفاءات وليست للمحسوبيات، فكانت النهضة الزراعية والنهضة الصناعية الكبرى، حيث قادت الثورة حركة التصنيع في مصر، وأنشأت المصانع الصغيرة والمتوسطة والعملاقة مثل مجمع الألومنيوم في نجع حمادي بصعيد مصر.. وكذلك مصنع الحديد والصلب في حلوان، فـأنتجت أول سيارة في الوطن العربي وإفريقيا “سيارة رمسيس” عام 1958 ومن بعده تم إنتاج سيارة “نصر” وهكذا صناعات النسيج والحديد الصلب وغيرها.
كما قامت الثورة ببناء السد العالي بعد أن رفض جمال عبد الناصر شروط البنك الدولي لتمويله وقام بتأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956 في أهم خطوة ثورية، والتي كانت سببا مباشرا في العدوان الثلاثي على مصر من إنجلترا وفرنسا والكيان الصهيوني، وانتصرت مصر على العدوان ولقنتهم درسا في البطولة والفداء في بورسعيد، وضعت مصر في قيادة الدول المناهضة للهجمة الاستعمارية.
وناهض جمال عبد الناصر دوائر الاستعمار والصهيونية والرجعية طوال فترة حكمه التي امتدت منذ 1952 حتى عام 1970، لذلك كان التآمر الاستعماري الأمريكي الصهيوني الغربي عليه كبيرا، وتجلى ذلك في عدوان 1956، وكذلك في نكسة يونيو 1967، لكنه ظل رغم الهزيمة شامخا مسلحا بإرادته، وبدعم الشعب المصري وجماهير الأمة العربية.
كما انتهجت الثورة طريق التنمية الاقتصادية بعيدا عن الإملاءات الخارجية، وبدون سطوة قروض البنك الدولي، ونجحت في بناء تحالف من قوى العالم الثالث المناهضة للاستعمار، وبذلك نجحت في توفير فرص العمل لكافة الخريجين من حملة المؤهلات العليا والمتوسطة والعمالة العادية، حيث كان معدل البطالة في مصر صفر %.
لقد قاد جمال عبد الناصر حركة التحرر العالمية، وكان لثورة يوليو دور كبير في ظهور ودعم حركات التحرر الإفريقية والثورات العربية، حيث دعمت ثورة السودان عام 1953 وإنهاء حقبة الاستعمار البريطاني.
كما دعمت ثورة الجزائر عام 1954 وإنهاء حقبة الاستعمار الفرنسي، وساندت ثورة يوليو ثورة العراق ضد الاستعمار البريطاني عام 1958، وكذلك ساندت ثورة اليمن عام 1962، كما كان لها دور كبير في مساندة ثورة الفاتح من سبتمبر في ليبيا عام 1969م، وكان من أهم أهداف ثورة 23 يوليو إقامة الوحدة العربية، ونجحت في تأسيس الجمهورية العربية المتحدة التي ضمت كلا من مصر وسوريا في دولة الوحدة عام 1958، ولكن بالنظر للخطر الكبير الذي تمثله الوحدة العربية على دوائر ومصالح الاستعمار والصهيونية جرى التآمر عليها فوقع الانفصال المشؤوم عام 1961، بعد أن نجح ضباط انقلابيون في تولي السلطة في القطر الشمالي للجمهورية
قام جمال عبد الناصر بعد النكسة في يونيو 1967 بإعادة بناء القوات المسلحة المصرية وخاض حرب الاستنزاف منذ 1967 حتى رحيله عام 1970 والتي كانت مقدمة طبيعية لانتصار أكتوبر 1973.
نضال ثورة يوليو في إفريقيا لم يقتصر على بناء ودعم حركات التحرر ومقاومة التمييز العنصري بل قامت بإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963 في أديس أبابا والتي أصر جمال عبد الناصر على أن تكون إثيوبيا مقرا لها تدعيما وحماية لمياه النيل التي تتدفق إلى مصر من إثيوبيا باعتبارها دولة من دول المنبع، وتلك نظرة استراتيجية عميقة تمتع بها جمال عبد الناصر، وكان يرى أن أمن الأمة العربية مرتبط بأمن القارة الإفريقية وتحررها من الاستعمار.
من جانب آخر قامت ثورة يوليو بمحاربة الأحلاف المعادية للأمة العربية، ومنها حلف بغداد، وأسست مع يوغوسلافيا والهند وإندونيسيا عدم الانحياز لتشكل قوة دولية ثالثة خارج المعسكرين الغربي والشرقي.
وفرت ثورة 23 يوليو لعموم المصريين حياة كريمة رغم شح الموارد، فلم تكن هناك إيرادات السياحة أو البترول أو قناة السويس، وكانت تخوض معركة تحرير الأرض المحتلة، لكنها استمرت في اهتمامها بتوفير حياة معيشة طيبة لأغلبية الشعب المصري مع أنها لو قامت برفع أسعار السلع الغذائية الأساسية بحجة بناء الجيش وهدف تحرير الأرض المحتلة ما اعترض أحد.
لقد عاشت مصر في عهد عبد الناصر عصرا ذهبيا، فكانت دولة قائدة للعالم الثالث وحظي المصريون بالتساوي تقريبا بحياة كريمة وتمكنوا من التعليم والصحة والعمل.
كما كانت داعما أساسيا لقضية فلسطين التي كانت ولا تزال القضية المركزية للشعب العربي كله رغم انحراف حكام الأمة العربية عن طريق جمال عبد الناصر عبر اتفاقيات ما سمي بالسلام مع الكيان الصهيوني والذي يثبت كل يوم أنه كيان استيطاني سرطاني ينهش في جسد الأمة عاما بعد آخر وتتضح صحة مقولة جمال عبد الناصر الاستراتيجية أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
ان الذين يريدون محو اسم وصوت وصورة “جمال عبد الناصر”، لا يدركون الحقائق الكبرى في سيرة الرجل، ولا طبيعة بطولته في التاريخ المصري والعربي، فلم يكن “عبد الناصر” قائدا عسكريا ينتصر وينهزم وتتوارى قصته، بل كان تلخيصا في شخص لأحلام أمة، ولآمالها في اقتحام سباق العصر الحديث، وهو ما يفسر ارتباط الوجدان الجماعي باسمه، وحيازته تأييد الناس الجارف حتى بعد هزيمة 1967، وتدفق فيضان الناس التلقائي بالملايين لإعادته إلى موقع القيادة في 9 و10 يونيو 1967، والاستقبال الأسطوري المليوني له في الخرطوم، عشية عقد القمة الشهيرة “قمة اللاءات الثلاث”، وشهود جنازته غير المسبوقة ولا الملحوقة في مطلق تاريخ البشرية كلها، واتصال شعبيته حتى بعد عقود طويلة على رحيله، فلم يكن الرجل حين رحل قد انتصر بعد، بل رحل وهو واقف على الجبهة، لم يسلم بهزيمة فادحة وقعت، ويعاند الريح السموم طلبا للنصر بالمعنى الحربى والاقتصادي والاجتماعي والحضاري الأوسع، يواجه تلالا من المشكلات والتحديات، ويسعى لتلبية أحلام أغلب الناس في بناء نظام جديد ديمقراطي سياسيا واجتماعيا، ومات وهو يسعى إلى حلمه وحلم أمته، فلم يكن الرجل رومانسيا محلقا، بل كان يطارد حلمه منطلقا من واقعه، ولم تكن مصر في أيامه كما مهملا ولا منسيا، بل كانت القاهرة عاصمة الجنوب وحركات التحرير وشعوب عدم الانحياز، كانت “موسكو” و”واشنطن” على قمة عالم “ثنائي القطب” وقتها، وكانت “القاهرة” هي الصوت الآخر الثالث، كان الرجل يملك خواص قيادة فريدة موهوبة، فأعاد صياغة المشهد العربي، ووزع الأدوار بين دول دعم ودول مواجهة، ويحشد جبهات الجنوب العالمي من وراء القضية العربية، ويطرد نفوذ “إسرائيل” من عموم أفريقيا بلدا وراء بلد، ويدعم المقاومة الفلسطينية، ويخوض معها معاركها من وراء خطوط الاحتلال، ومن دون أن يغفل عن مواصلة أشواط التنمية في الداخل المصري.
وبعد مرور 71 عاما على ثورة 23 يوليو فإن منجزاتها باقية رغم محاولات تسفيهها والعدوان عليها منذ رحيل جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 وحتى اليوم من خلال حملات تشويه ممنهج تشرف عليها الماكينة الدعائية الصهيونية.
كما أن مشروعها النهضوي الوحدوي ما زال أملا يراود الملايين من أبناء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، ففي وحدة الأمة العربية تكمن قوتها وتزداد منعتها وقدرتها على التصدي للمؤامرات التي تستهدف احتلال المزيد من بلدانها لتكون في نهاية المطاف مرتعا للاستعمار والصهيونية.
فهل يتحرك الشعب العربي الواحد طلبا للوحدة أم يبقى الحال على ما هو عليه مرشحا لمزيد من التردي؟