انهيار وشيك للتعليم الطبي في طرابلس!
متابعات – منيرة الشريف
كان القطاع الصحي في ليبيا قبل عام 1969، من أضعف القطاعات، حيث توجد مستشفيات محدودة جدًا في طرابلس وبنغازي، ومستشفى للإنجليز في بنغازي، وآخر للأمريكان في الملاحة، إضافة إلى مستشفى “كانيفا” في طرابلس الذي سمي على اسم الجنرال الإيطالي الذي قاد الحملة العسكرية على ليبيا سنة 1911، يخدم فقط الجالية الإيطالية، إلى أن تم تحويله بعد 1969 إلى مستشفى التأمين، وكان عدد الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان لا يتعدى عدد أصابع اليدين، وأنشئت مدرسة وحيدة لمساعدات الممرضات يتم الالتحاق بها بعد الابتدائية في طرابلس عام 1968.
وكان هم الثورة الأول الاهتمام بالقطاع الصحي والقضاء على الأمراض المتوطنة وتقديم رعاية طبية مناسبة ومتساوية للمواطنين، فأطلقت خطة ضخمة لبناء المستشفيات والعيادات المجمعة والمراكز الصحية والمستوصفات، وافتتحت مستشفيات تخصصية، لكن الأهم كان إنشاء كلية لتعليم الطب البشري في بنغازي، العام الدراسي 1970-1971، تلتها كلية أخرى في طرابلس عام 1973، وبعدها انتشرت كليات الطب البشري في كل المدن والمناطق، وأنشئت أيضًا كليات طبية أخرى منها: طب الأسنان، الصيدلة، التقنية الطبية، والعلوم الطبية المساعدة.
ولقد تأسس التعليم الطبي في ليبيا على قاعدة متينة، حيث تم اعتماد مناهج تعليمية من الدول المتقدمة، ونظام امتحانات معقد، يضمن جودة المخرجات.
ونجح التعليم الطبي في تخريج عشرات آلاف الأطباء، الذين تمكنوا من المنافسة على المستوى العالمي، حيث انتشر آلاف الخريجين في دول العالم، أمريكا، كندا، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، فنلندا، وغيرها من الدول الأجنبية، إضافة إلى دول الخليج العربي، وأثبتوا كفاءتهم وتفوقهم سواء في التخصص أم في قدرتهم على اكتساب المهارات العملية.
بعد أحداث 2011، تعرض التعليم الطبي كغيره من القطاعات والمؤسسات، لأزمات متتالية، تمثلت في نقص الإمكانات، وانتشار الفوضى، وتدخل المجموعات المسلحة في شؤون القطاع، لكن الأساتذة الليبيين تمكنوا في ظروف صعبة من الحفاظ على مستوى جودة مناسب لمخرجات التعليم الطبي إلى الآن، رغم الفوضى وانهيار مؤسسات الدولة وانتشار الفساد.
نفوذ الميليشيات يطال التعليم الطبي
تنازع النفوذ بين الميليشيات طال قطاع التعليم الطبي، فتقاسمت المراكز التعليمية والصحية فيما بينها، وأصبحت تتدخل في إدارتها مباشرة، كذلك ساعد ضعف أداء الحكومة وعدم اهتمامها بتطوير هذا القطاع المهم وبقائه في أيدي مسؤولين مهمتهم إرضاء الميليشيات، على تفشي الفساد داخل أروقته.
التعليم الطبي عملية معقدة تدمج بين الدراسة الأكاديمية والتدريب العملي، فالطبيب عليه دراسة علوم الطب النظرية، والتدرب على ممارسة المهنة عمليًا، لذلك جزء مهم من التعليم الطبي يتم في المستشفيات التعليمية، وهذا يتطلب تنسيقًا بين وزارتي التعليم التي تتبعها كليات الطب، والصحة التي تتبعها المستشفيات، وتم ذلك بنجاح خلال السنوات الماضية باستحداث “المرافق الصحية التعليمية” حيث تدار المستشفيات التي يتم تدريب الطلبة بها من قبل إدارة مشتركة من وزارتي الصحة والتعليم.
من جانب آخر هناك أمر لم يستطع المسؤولون الحاليون في الحكومة استيعابه، وهو أن التعليم السريري في السنوات الأخيرة من دراسة الطب، ينبغي أن يقوم به أساتذة يحملون تأهيلًا مهنيًا عاليًا، يمكّنهم من العمل كإخصائيين بالمستشفيات، وليس حملة شهادات أكاديمية بحتة، قد لا تؤهلهم للعمل المهني الطبي.
نداء استغاثة
وفي رسالة لأحد الطلبة الدارسين بكلية الطب وجهها إلى أحد أساتذة الطب، وانتشرت على مواقع التواصل، جاء فيها:
أنا طالب مقيد بالسنة الخامسة لكلية الطب البشري بجامعة طرابلس، أود الحديث حول موضوع مهم يحصل داخل أروقة الكلية في هذه الأيام.
الجامعة دون استشارة القسم كما تنص اللوائح، قامت بتغيير قسم الباطنة داخل الكلية بأعضاء جدد صغار في السن وحديثي الالتحاق بالتدريس بين ليلة وضحاها، والكارثة أن الغش الذي حصل في امتحان الورقة الأولى والثانية من امتحان الباطنة، سابقة تاريخية في الكلية وحتى في الجامعة لدرجة هناك طلبة دخلوا الامتحان ومعهم الأسئلة، والآن يجري الإعداد للامتحان السريري عن طريق معيدين، حيث يتم تدريب هؤلاء المعيدين داخل قسم المهارات بالكلية ومعهم طلبة مقيدون بالمادة تكشف لهم اللجان والـCheck list الخاصة بالامتحان!!
وعلى إثر انتشار الرسالة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكد أساتذة الطب صحة المعلومات الخطيرة التي وردت من الطالب، وأشاروا إلى أنهم عقدوا اجتماعا مصغرا مع عميد الكلية، واتفقوا على وقف المهزلة التي سببها قرار غير سليم بتعيين رئيس قسم الباطنة وتعيين أعضاء هيئة تدريس به بالمخالفة للقانون والقواعد المعتمدة في الطبيات، وتم الاتفاق مع عميد الكلية على وقف القرار وإرجاع رئيس قسم الباطنة المكلف لتسيير القسم وتم تحديد موعد الامتحان يوم 15 و16 الورقة الأولى والثانية، وبعدها بأسبوع يجري الامتحان السريري، وبعد اعتماد النتيجة سوف يتم اختيار رئيس قسم جديد من خلال اجتماع مجلس قسم الباطنة، لكن تدخلات ما وقعت، فرضت استمرار الوضع، ولذلك أصر الأساتذة أعضاء هيئة التدريس على عدم المشاركة في المهزلة وتراجعوا خطوة إلى الخلف، ولكنهم وضعوا هذه المعلومات الخطيرة أمام رئيس الحكومة ووزير التعليم العالي ورئيس الجامعة، وأمام الأساتذة في كلية الطب طرابلس، مؤكدين أن هذا فساد لا يمكن السكوت عنه، وتخريج أطباء بالغش جريمة ضد الإنسانية قد تضر أيا من أفراد الشعب!
استقالة رئيس عمداء كليات الطب بالجامعات الليبية
وفي العاشر من شهر يوليو الجاري، أعلن عميد كلية الطب البشري بجامعة طرابلس، رئيس عمداء كليات الطب بالجامعات الليبية، الأستاذ الدكتور عبد العزيز علي الرابطي، استقالته من منصبه.
وأوضح الرابطي أن التعليم الطبي في ليبيا يعاني انهيارا وتهميشا، وذكر عدة أمور مهمة في نص رسالة الاستقالة، مبيّنًا أنه لا يرغب في الاستمرار كجزء من هذه المنظومة ليشهد انهيار البنية العلمية التي تم بناؤها على مدى 50 عامًا.
وذكر أن التلاعب بالطب والتعليم الطبي من قبل الحكومة ستكون نتائجه وخيمة على البلاد، لافتًا إلى أن من أسباب استقالته كذلك سلسلة الإهانات لأعضاء هيئة التدريس بكلية الطب وإهانة الأطباء من خفض لرواتبهم، وعدم توفير متطلبات التعليم الطبي رغم المطالبات المتعددة.
وقال عميد كلية الطب إنه بذل قصارى جهده وراسل وكاتب الجهات المسؤولة واجتمع معهم بشكل شخصي وجماعي، ولكن لا يوجد حلول والطريق مسدود، وأوضح أن من أبرز أسباب تقديم استقالته، ما يخص الاعتماد الدولي من قبل منظمة الطب العالمية، حيث إن الكلية مقدمة على مرحلة حرجة، وهي زيارة فريق التدقيق العالمي لمنحها الاعتماد الدولي، وذلك في شهر أكتوبر القادم، وبالتالي يُعد هذا التوقيت قصيرا جداً مقارنة باحتياجات الكلية التي تضم 10 آلاف طالب وطالبة، والمتمثلة في توفير مواد التشغيل للمعامل، صيانة المرافق الصحية دورياً، توفير المياه والكهرباء للطوارئ، تجهيز بعض القاعات بآلات العرض والتكييف، التغطية الكاملة بالشبكة المعلوماتية، صيانة السلالم التي تشكل خطراً على المارة، وتوفير معدات الأمن والسلامة.
ونوه العميد إلى مطالبة وزير التعليم العالي والبحث العلمي، أثناء اجتماعه بعمداء كليات الطب في الجامعات الليبية بالدعم فكان رده “من لا يستطع فعليه الانسحاب”، كما تم التواصل مع عديد الجهات والشخصيات في مجلس النواب والمجلس الرئاسي، ولكن دون جدوى ولم نجد استجابة.
وإثر استقالة عميد كلية الطب البشري بجامعة طرابلس الدكتور عبدالعزيز علي الرابطي، توالت ردود الأفعال، حيث كتب الدكتور مصطفى الزائدي عبر صفحته على فيسبوك:
استقالة الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الرابطي أستاذ الجراحة العامة وعميد كلية الطب بطرابلس إعلان عن كارثة حقيقية تعصف بالتعليم الطبي نتيجة تسلط غير المختصين وتدخل جهلة سطحيين، وعبث ممنهج لتدمير كل أسس بنيان الوطن!
وأضاف: في ليبيا انطلق التعليم الطبي من تحت الصفر، وتم إعداد عشرات آلاف الأطباء الأكفاء في مختلف التخصصات، وانتشرت الكليات الطبية من بنغازي إلى كل المدن وبنفس المستوى والضوابط تقريبا، وانطلقت كليات طب الأسنان والصيدلة والتقنية الطبية والكليات الطبية للعلوم المساعدة، وتم بنجاح تلييب التعليم الطبي كليا، وصار الاعتماد على الخبراء الليبيين بأقل التكاليف، لكن تدخل غير المختصين في التعليم الطبي ومحاولة فرض مفاهيم توقعوها صحيحة، خاصة وإنهم بمؤهلات مشكوكة ومن جامعات وهمية من دول متخلفة وبعضها لا يوجد بها مستوى تعليمي يقارن بليبيا، وغير مطلعين على طبيعة التعليم الطبي في كل العالم المتقدم في الغرب والشرق، وغير متصورين لأهمية الشهادات السريرية التخصصية في ممارسة مهنة الطب وتعليمها، وإن الطب مهنة ومهارة يتم نقلها من المختصين للطلاب من خلال العمل الطبي.
واختتم الزائدي قائلًا: في الوقت الذي أتعاطف فيه مع الطلاب وأنحاز بكل وضوح إلى حقوق المرضى الكاملة، وانطلاقًا من قناعتي بأن الطب مهنة إنسانية خالصة، يعمل بعض المرابين والسماسرة على تحويلها إلى مهنة تجارية بحتة، ومصدر لجمع الأموال وتكديسها على حساب صحة الناس ومستقبل الأجيال، فإنني أدعو إلى جهد وطني لدعم الإخوة أساتذة الطب في طرابلس خاصة ليبيا عموما في موقفهم الحازم للدفاع عن التعليم الطبي الذي يعبث به السفهاء.
وكتب الدكتور عامر التواتي، عبر حسابه على “فيسبوك”: “استقالة الدكتور عبدالعزيز الرابطي من مهامه عميدا لكلية طب طرابلس – وللأسباب التي أوضحها في مذكرة الاستقالة – ليست مجرد استقالة موظف من وظيفة عامة، بل هي احتجاج على سوء إدارة التعليم الطبي من قبل الجامعات ومن قبل وزارة التعليم العالي”.
وأضاف: “حاول الدكتور الرابطي وغيره من الزملاء شرح وتوضيح طبيعة التعليم الطبي الإكلينيكي لرؤساء الجامعات وحتى لوزير التعليم العالي، ولكن هؤلاء المسؤولين لا يريدون أن يفهموا، أو أنهم غير قادرين على الفهم أو أن هناك أمورا أخرى لا نعلمها!”.
وتابع التواتي: “استقالة الدكتور الرابطي ليست هروبا من مهامه ولم يتحجج الرجل بأسباب صحية أو شخصية، بل إنه أدرج الأسباب التي جعلته يستقيل، وحسب معرفتي أن الاستقالة لأسباب معينة تستوجب التحقيق في هذه الأسباب وتحميل الكل مسؤوليته عنها”.
واختتم: “أدعو رئيس حكومة الوحدة الوطنية لتشكيل لجنة من مختصين للنظر في هذه الأسباب ومعالجتها قبل فوات الأوان، لأن ما حدث ليس مجرد استقالة”.
من جانبه كتب الأستاذ الدكتور بلقاسم الباروني على فيسبوك:
“الحزن فاق الدموع، والدمار فاق هيروشيما ونجازاكي، والجهل فاق أبو جهل، والمخلصون حربهم فاقت كل الحروب، والفساد انتشر كالنار في الهشيم، وما لنا إلا الدعاء إلى الله أن يفرج علينا”.
وأضاف: “استقالة د. عبدالعزيز الرابطي من عمادة كلية الطب لابد منها رغم الحزن الذي صاحبها والخوف المرتقب على مستقبل التعليم الطبي والطب عموما في ليبيا، ولكن لعلها تكون ناقوس إنذار للجميع، وخاصة طلبة الطب والأطباء للتغير إلى الأحسن، وإلا ضاع مستقبلهم وانهار الطب في بلادنا”.
والله المستعان.