مقالات الرأي

فوبيا الانتخابات

محمد بو خروبه

في طفولتي صنعت حصّالة لم تحفل بالمال، فملأتُها بالأمنيات، لم أكن أعلم أن الأمنيات أخف من النقود، كلما زدتها تلاشت.. فهل تلاشت أحلامنا لشعب أراد أن يكون مثل باقي الشعوب سيادة وإرادة وقوة.
تتمثل العقبة الدائمة أمام إجراء الانتخابات في ليبيا، في أن الجهات الفاعلة التي تتمتع حاليًا بالثروات والهيبة التي تدرّها مناصبها المؤقتة نظريًا، لا تملك أي حوافز تدفعها إلى التفاوض بشأن تنحيها أو تعريض أنفسها إلى خطر فقدان مناصبها، بسبب نتائج التصويت، بعبارات أخرى تصبح المخاطر المؤقتة والانتقالية دائمة أكثر فأكثر ما لم يكن المجتمع الدولي مستعدًا لإخراج ليبيا من وضعها الراهن الآخذ في الترسخ.
في السنوات القليلة الماضية، على سبيل المثال شكلت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا “ملتقى الحوار السياسي الليبي” لوضع شروط الانتخابات التي طال انتظارها، وذلك بعد انتهاء الحرب في عام 2019-2020، اختار الملتقى الذي يضم 75 عضوًا يوم 24 ديسمبر 2021 لإجراء الانتخابات، ولكن عندما بدأت مساعي تشكيل حكومة مؤقتة تُكلَّف بالحكم حتى الانتخابات، طرأت المشاكل فورًا.
وفى فبراير اختار الملتقى عبد الحميد الدبيبة رئيسًا للوزراء ومحمد المنفي رئيسًا للمجلس الرئاسي الرمزي. فقد هزما وزير الداخلية الأسبق والأكثر شهرة فتحي باشاغا.. ورئيس مجلس النواب منذ فترة طويلة عقيلة صالح عيسى في تصويت مفاجئ شابته اتهامات بشراء الأصوات.
وعلى الرغم من حصول الدبيبة على مجموع 39 صوتًا، لا يزال رئيسًا “لحكومة الوحدة الوطنية” ويحظى بمعاملة سخية بطائرات خاصة، وقد حضر الدبيبة نهائي دوري أبطال أوروبا في 12 يونيو في إسطنبول.. بدعوة من الرئيس التركي، إلى جانب حليف آخر مهم هو رئيس دولة الإمارات.
بالإضافة إلى ذلك، يتصرف الدبيبة كرئيس للوزراء ويوقع الأوامر، والأهم من ذلك يوزع الأموال ويدفع الرواتب قبل كل شيء، في إطار ترتيب غير رسمي مع البنك المركزي الذي يحصل على أرباح النفط الليبي.
كما ادعت الولايات المتحدة وشركاؤها المساهمة في تحسين الإدارة المالية، ولكن الإبهام ما زال يشوب جوانب كثيرة تحت خطوط الإنفاق في المستويات العليا.
وأشار تقرير حديث أعدّه صندوق النقد الدولي إلى أن نسبة الاحتياطيات الأجنبية إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 200 في المئة.. وتفوق بأشواط النسبة المسجَّلة في السعودية حتى.. ولكن الغموض يلف الوجهة النهائية للأموال كما أفاد صندوق النقد الدولي.. ويتطلب تنفيذ الميزانية بشفافية وبتحسينات كبيرة.. هذا وقد حذر القائد العام للقوات المسلحة المشير خليفة حفتر الحكومة الليبية من الفساد الجاري والتلاعب في الأموال الليبية دون حسيب أو رقيب.. كما حذر جميع الأجسام ومتصدري المشهد بأن هذا العبث في أموال الليبيين ستكون نتائجه جدا وخيمة.
وتحت هذا الضغط اضطر المجلس الرئاسي ورئيسه السيد محمد المنفي لتشكيل لجنة من الأقاليم الثلاثة لإدارة أموال الليبيين وأوجه الصرف.
وتحت عنوان آخر لهدر الجهود بلا طائل، أعلن الرئيس الجديد لـبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عبد الله باتيلي، في مجلس الأمن في نوفمبر أنه سيعقد مشاورات واسعة النطاق في جميع أنحاء ليبيا لرسم مسار جديد يفضي إلى الانتخابات، وبدلًا من ذلك، لجأ مرة أخرى إلى مجلس النواب ونظيره في المجلس الأعلى للدولة، اللذين دخلا في دوامة لا تنتهي، فلقد اتفق الاثنان على تشكيل لجنة من ستة ممثلين عن كل مجلس، مدركَين تمامًا أنهما يستطيعان عرقلة أي اتفاق في أي وقت.
في غضون ذلك، يرفض الدبيبة التنازل عن السلطة لصالح حكومة مؤقتة أخرى مكلفة بإدارة العملية الانتخابية بغض النظر عما إذا قرر الترشح للرئاسة، وقد عارض الكثير من الجهات الفاعلة السياسية خطة لجنة 6+6 التي تقضي بزيادة عدد مقاعد البرلمان من 200 حاليًا إلى 297 مقعدًا، وتحججت أيضًا الأطراف بقضايا متعددة أخرى أو تتحجج بها لتبرير عدم إجراء الانتخابات.
وخلاصة القول هي أنه ما لم يحث المجتمع الدولي الليبيين على خلط الأوراق سيستمر احتمال إجراء انتخابات في ليبيا بالتضاؤل وسيزداد الصراع ترسخًا من خلال صفقة النفط مقابل النقد المعيوبة التي تغني النخبة السياسية.
لقد أعطى الممثل الخاص باتيلي من جانبه فرصة أخيرة لـ”المجلس الأعلى للدولة” ومجلس النواب لحل نزاعاتهما، وفي خطابه القادم أمام مجلس الأمن، يجب أن يدعو المجلسَين للتصويت على اتفاق “لجنة 6+6”.. وإذا فشل ذلك يجب أن يعتمد نهجًا جديدًا.
تشكل دائمًا بعثات الأمم المتحدة ساحة تجاذب بين المسؤولية المحلية والتوجيهات العملية.. وينبغي على باتيلي، حتى لو تعارض ذلك مع غرائزه، بذل جهود تنم عن حسن نية لسد الثغرات بين القوانين الانتخابية لـ”لجنة 6+6″ ومعارضيها، من الخارج، قد لا يبدو أن ليبيا تستحق الكثير من الاهتمام بما أن الفصائل المتحاربة لا تتقاتل والنفط يتدفق والبلاد لم تعد الملاذ الآمن للإرهابيين كما كانت سابقًا.. لكن وهم الاستقرار يمكن أن يتلاشى في أي وقت.

زر الذهاب إلى الأعلى