السيطرة بالتنويم الاستعماري!
مصطفى الزائدي
لقد تطورت الفكرة الاستعمارية كثيرًا خلال العقود الماضية، وتحولت من الاعتماد على القوة المادية إلى السيطرة بوسائل ناعمة!
فلقد فقد الاستعمار بعد الحربين العالميتين زخمه التقليدي، وظهرت إلى النور حركات مقاومة مسلحة فعالة أوجعت المستعمر وزعزعت سيطرته، ووجدت في حالة الاستقطاب الثاني فرصة للنمو والتمدد وتحقيق انتصارات باهرة أجبرت المستعمرين على الاعتراف بحقوق الشعوب في الاستقلال، خاصة بعد أفول الإمبراطوريات الاستعمارية، الترك والهولنديين والإسبان، وسرعان ما لحقت بهم الإمبراطوريات الأكثر قسوة وقمعا الإنجليز والفرنسيين!
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية التي ورثت بريطانيا كليا وفرنسا جزئيا أن تسد الفراغ، وأن تلعب نفس الدور، لكنها فشلت، خاصة بعد الحربين الكورية والفيتنامية الفاشلتين، وكذلك بعد نجاح شعوب جنوب القارة الجديدة في رفض ولفظ الأنظمة العسكرية الفاشية التي حاول اليانكيون فرضها عليهم، وبداية تصدعهم مع انتصار الثورة الكوبية وصمود اليسار المكسيكي إلى أن انهارت شبه كلي، وتم تعويضها بأنظمة شبه ديمقراطية شبه مستقلة، لكنها لم تسمح أن تكون بلدان أمريكا الجنوبية حديقة خلفية لأمريكا ولا وكرا وملاذا آمنا لوكالة المخابرات الأمريكية وعملائها وعملياتها الإجرامية على مستوى العالم، وإن تلك المعطيات الجديدة دفعت الغرب الاستعماري بقيادته الجديدة أمريكا إلى تغيير تكتيكاته ليتمكن من الحفاظ على تواجده ومكتسباته.
الحرب النفسية وتطويع العقول ونشر الفوضى والسيطرة من خلالها على الدول استخدمتها أول مرة في إيران عام 1952 لإسقاط حكومة محمد مصدق الوطنية، حيث نجحت في إرشاء بعض القيادات النقابية من ضعاف النفوس ودفعتهم لتحريك انتفاضة محدودة بمطالب حياتية، ثم نجحت في تحويلها إلى حراك واسع مكن أتباع الشاه المخلوع من العودة، واستمر في السلطة مسخرا إيران وكل طاقاتها لخدمة المشروع الاستعماري في آسيا، حتى انتفض الشعب ثانية في نهاية سبعينيات القرن الماضي بقيادة الخميني!
استخدمت أمريكا نفس الأسلوب طوال الحرب الباردة مع المعسكر الشرقي ففجرت ما أسماه ربيع بودابست في 1956 وربيع براغ بقيادة دوبيتشك في 1968، ورغم نجاح الشرق في احتواء العمليتين، إلا أن الغرب بنى عليها إلى أن نجح في تدمير المعسكر الشرقي كليا في نهاية ثمانينيات القرن الماضي! ثم جاء الربيع العربي بنفس الوسائل وبذات الأسلوب، فكان نجاحه أسهل بعض الشيء خاصة بعد مزجه بتدخل عسكري مباشر.
الشعارات واحدة، “التحرير” والأدوات واحدة إذاعات وقنوات “الحرة” والجيوش الحرة وهكذا.
في الوطن العربي كان المظهر الاستعماري أكثر فجاجة ووضوحا، إذ سيطر الأمريكان مباشرة على الحكم من خلال نموذج بريمر ومجلس حكمه الذي شكله والدستور الذي فرضه في العراق، تكرر النموذج في ليبيا سلطة غير مباشرة للسفراء ومجلس انتقالي وإعلان دستوري واتفاقات سياسية كلها صيغت في الدوائر الاستخباراتية ومررت وفرضت بأدوات ليبية شكلية وشخوص يحملون جنسيات الغرب ويدينون بالولاء لهم!
لذلك من السطحية التوهم ولو للحظة أن الحكومات التي عينها السفراء ورؤساء المؤسسات الذين فرضوا من قبلهم قد ينحازون بأية درجة لمصلحة الوطن، فذلك كمن ينتظر العسل من أنياب الأفاعي! ما نراه من صلف للسفراء وغطرسة وتعجرف للموظفين من أصول ليبية يعكس حقيقة أن ما يجري ليس سوى دورة من دورات الاستعمار، لقد عاد إلينا من الباب الذي أخرجناه منه، لكنه عاد بحجم دماء نزفت من شعبنا أكبر بكثير من تلك التي روت تراب بلادنا أثناء مقاومته وطرده، لقد دفع شعبنا ثمنا باهظا أثناء مرحلة الاستعمار، لكن الثمن أكبر بكثير بعد أن عاد منتقما يحرق الأخضر واليابس!
ولولا نجاح ضباط القوات المسلحة في إعادة بناء جيش حقيقي يسيطر الآن على أجزاء واسعة من الوطن وتمكن قلة وطنية من الدخول إلى المؤتمر الوطني ومجلس النواب في غفلة من عيون السفراء المسيطرين لكانت ليبيا اليوم شيئا من التاريخ!