مقالات الرأي

في محراب الكتابة

المهدي الفهري

اللجوء إلى الكتابة أو القدرة على التعبير والإنشاء في عالم متغير معرفيًا وثقافيًا عادة ما يمنحنا نوعا من التوازن وحالة من الرضا والأريحية نجد ونجدد معها أنفسنا بسِمات سردية ودرامية جميلة تحاكي المشهد الواقعي وتولد لدينا أفكارا جديدة تساعدنا على تقديم ذواتنا بحرية وتسمح لنا بمعايشة الأحداث والتفاعل معها بواقعية وتزيح عنا كل دلالات القلق والقنوط وتخفض من معدل هرمون التوتر، في حين يشعرنا الهروب منها بالهروب من الواقع والتولي عن قيم المجتمع وقضاياه، فالجمع بين القراءة والكتابة يطرد الكآبة ويفتح الآفاق القريبة والبعيدة التي تطل على الآخرين، ويتيح لنا فرصة الاطّلاع على تنوع الثقافات والرؤى وخلق القارئ الواعي القادر على تحريك أوتاره الداخلية على إيقاع أشجان الوطن وعلى الالتقاء ومد الجسور بين الوعي الفكري والأدبي والوعي الثقافي وصنع التغيير الإيجابي من خلال التعمق في كيفية إدماج الإبداع الأدبي بحقائق الأشياء والوصول الى مرحلة من النضوج تعزز من مقدرتنا على إعادة طرح القيم التي تخدم قضايانا والإدراك بأن الإرادة وحدها هي المسؤولة عن أفكارنا وتصرفاتنا، وهي الأهم إذا عرفنا كيف نحولها إلى فرص ووقائع.
قدرتنا على الاتصال مع المتلقي دون عناء سواء عن طريق مِلكة الكتابة أو غيرها من الوسائل يمثل ترويحا عن النفس وتنفيسا عن المكبوتات التي تخرجنا من عالم العزلة وتقربنا من تحسس نبض الشارع والإحساس بالوجع الحقيقي للناس وتفتح لنا طرق الوصال والمشاركة الوجدانية والإنسانية التي تخفف من ثقل المعاناة وتحد من نتائجها عبر البحث عن حلول ومخارج لأزماتهم وقضاياهم وصون أماناتهم التي نتشرف معنويا بحملها من خلال تقديم إجابات صادقة وواضحة تحوز على الثقة والرد المقنع على أسئلتهم واستفساراتهم وبما يرفع من ثقتنا وقيمتنا المعنوية لدى الآخرين ويعزز من رصيدنا الإنساني الذي نسعى دائما لأن يكون دائنًا وليس مدينًا، ورغم أن الكاتب لا يقدم حلولًا جاهزة إلا أنه يطرح أسئلة واستفسارات، ولعله يجتهد أحيانا في تقديم بعض المقترحات والمقاربات من خلال نص مُشوق غزير المعاني يقترب من الواقع المعاش ويفتح مسارات ومساحات للتفكير ويعبر بصدق عما يحلم ويبحث عنه الآخرون، فهو لسانهم وأداتهم الوحيدة لإيصال صوتهم الصامت والمكبوت وتحقيق مطالبهم وأملهم نحو التغيير للأفضل، وذلك يضع عبئا كبيرا على الكتّاب ويزيد من حاجتهم إلى الصبر والتأني وتحمل المسؤولية الأخلاقية والإنسانية.
لكل كاتب دوافعه وميوله الأدبية وخلفيته الثقافية التي تختلف باختلاف الأشخاص والمواضيع التي تطرح للكتابة، فعلى امتداد الساحة الثقافية والفكرية تتعدد وتتنوع القناعات وتتبادل الأفكار بين الكتّاب والقرّاء، ويعتمد تأثر كل كاتب بالآخر على أمد الانسجام العاطفي بينهما وعلى القواسم المشتركة التي تجمعهما، وعلى مدى تقارب الآراء والثقافات بين البعض حول بعض المفاهيم والمصطلحات، ولعل ما يجذبهم جميعا هو عمق التحليل وقوة البلاغة وأساليب ربط السياقات النحوية بالواقع من خلال القيام بمراجعة نقدية لتجديد الخطاب وعدم فقدان الأمل وعبر أداء دورهم الوقائي والترشيدي في تفسير المفاهيم وتنقية الذاكرة وتقييم الظروف القائمة تقييما موضوعيًا يصعد ويرتقي بمضمون الكتابة وينعكس إيجابًا على الأمن الفكري والثقافي باعتبارهما بوصلة النجاة والخلاص أمام محاولات السلب والسطو وسرقة الأدمغة والعقول وفي وقت لم يعد فيه الاستلاب والتفكك الاجتماعي في حاجة إلى أن تسبقه إرهاصات ومغامرات عسكرية وميدانية، فيكفي أن يكون الهدم ثقافيا واجتماعيا وعن بُعد وفي عصر صارت فيه حرب الكلمات أشد فتكًا من حرب الفيروسات وأسرع انتشارا في عالم موبوء بيئيا وثقافيًا ومصاب بالغثيان الثقافي.

زر الذهاب إلى الأعلى