التبعية وتبعاتها ومخلفاتها أساس أزماتنا
أبو بكر خليفة أبو بكر
إن التبعية هي ظاهرة مركبة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحضاريا، بدأ ترسيخها بالاستعمار المباشر وتوطدت بتواصل الهيمنة عبر الاستعمار غير المباشر بتجلياته المتعددة، إنها استقلال ناقص على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية، وحتى بعد أن توارى الجنود والأدوات العسكرية والاستعمار الفعلي، بقيت الأفكار الغازية بأدواتها الثقافية المدججة بالإيديولوجيا، مع محاولات الإبقاء على طبقة سياسية تدين بالولاء للمستعمر المغادر لتعزيز التبعية، حتى أنتجت الحقب الاستعمارية المتعاقبة نموذج التفوق الغربي الرأسمالي الليبرالي الإمبريالي، والذي يعتمد على ثلاث ركائز أساسية:
ترسيخ التفوق العسكري.
تعزيز الهيمنة الحضارية والثقافية.
تجذير التفوق الاقتصادي.
ولتثبيت هذه الركائز وتحقيق وتجسيد أهدافها دأبت قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي الإمبريالي منذ حقب وعقود على المضي قدماً في الخطوات التالية:
أولا/ محاربة كل القوى المناوئة ومحاولة إرباك وعرقلة كل الكيانات الاقتصادية الناشئة، وبشكل أساسي محاولة إيقاف المارد الصيني بكل الوسائل الممكنة، عن طريق خلق الأزمات، وشيطنة هذا الكيان الصيني، حتى أن كورونا هذا الوباء الكوني الفتاك، هناك من يرى أنه إحدى المحاولات القذرة من طرف قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي، لوصم الصين بالتآمر عن طريق اتهامها بإطلاق هذا الفيروس الذي حصد أرواح مئات الآلاف من البشر.
ثانياً/ اختراق كل الحركات الثورية، بل ومحاولة التدخل في صنع الثورات وتهيئة قادة الثورات بمواصفات معينة، ولم تخل أغلب الحركات الاحتجاجية والثورية من تغلغل قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي، فتدخلاتهم تكاد تشمل كل ثورات العالم الثالث بغرض احتواء عواصف التغيير للتحكم في مساراته ومآلاته؛ والعالم العربي ليس استثناء باعتباره ينضوي تحت مظلة العالم الثالث والنامي، هذه الثورات التي ترتب عليها الاستقلال الهش لأغلب دول العالم الثالث، وصولا إلى شبهة تورطه وتدخله في ما يسمى بثورات “الربيع العربي” بموجتيه الأولى والثانية، لأن الغرب الرأسمالي الليبرالي والإمبريالي ليست له مصلحة في وصول حكومات ديمقراطية حرة ومستقلة ومنتخبة في دول العالم الثالث، ولابد من الإبقاء على التبعية عبر الشركات متعددة الجنسيات، والدور المطلوب كذلك من سفراء الدول الكبرى لإدارة أمور الحكم والقوة في الدول التابعة، والتحكم في السياقات السياسية فيها، وما نلاحظه في دولة مثل ليبيا لهو خير شاهد ودليل.
ثالثاً/ السعي الدؤوب للسيطرة على اقتصاديات الدول التابعة، ومنعها من إحداث نقلة نوعية تتيح لها الاستقلال الاقتصادي الحقيقي، عن طريق محاولة الهيمنة بطرق مختلفة على المقدرات الاقتصادية للدول التابعة، خصوصاً عبر محاولات تطويق المؤسسات السيادية والمصارف المركزية والمؤسسات الوطنية المشرفة على إدارة الموارد الاستراتيجية كالنفط، والسعي نحو جرها إلى خطط صندوق النقد الدولي الذي هو إحدى أدوات الهيمنة الرأسمالية على الاقتصاد العالمي.
رابعاً/ محاولة فرض رؤية التفوق الحضاري والثقافي على دول العالم بحضاراته المختلفة وحضارات الدول التابعة خصوصاً، وإظهارها بمظهر الحضارات المتخلفة والعاجزة عن ملاحقة تطور وتقدم الحضارة الرأسمالية الغربية، والترويج بأن علة تخلفها وعجزها عن إدراك التقدم والتنمية إنما تكمن فيها، كل ذلك يتم عبر كل الوسائط والوسائل المتعددة منذ عقود وحتى اليوم، عبر مراكز البحث والفلاسفة والمفكرين التابعين لدول الغرب الرأسمالي، مثل أطروحة صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي لصامويل هنتنغتون والتي تشيطن الحضارات الأخرى، وتصف الإسلام مثلا بأن حدوده دموية، ونهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما التي ينظر فيها للانتصار النهائي لقيم الديمقراطية الليبرالية.. وكذلك العمل على تدمير العقائد المتماسكة كالدين الإسلامي، والتي يرى كثير من مفكري الغرب أنها تهدد عرش هيمنة الحضارة الغربية على المدى البعيد، لذلك هم مستمرون منذ أمد بعيد في طريق السعي إلى اختراقها ومحاولة تمزيقها فرقا وأحزابا.
فأين نحن من كل ما يحاك لنا؟ لا شك أنه لا حل لنا إلا المقاومة، فكرياً: عن طريق تشبثنا بحضارتنا وثقافتنا وإبراز مكامن قوتها، وليس بمسخها عبر محاولة التمثل والمجاراة للحضارة الغربية الرأسمالية المسيطرة، واقتصادياً: عبر محاولة تأسيس كيانات اقتصادية على أسس علمية نجمع فيها نقاط قوة دولنا الاقتصادية، ونضع إستراتيجيات عميقة للتنمية الحقيقية والقضاء على التخلف. ودينيا: عبر محاولة تنقية ديننا من عوامل التفرقة والتشرذم، وفضح وتعرية الخطط المشبوهة القديمة والحديثة لشيطنة عقيدتنا، واستخدام كل الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك.