مقالات الرأي

سطوة النرجسية على مفاعيل الإبداعالجزء الثاني

محمد عبد القادر

أما عالمة النفس والمعالجة النفسية “ويندي بيهاري” في كتابها «تعرية النرجسي” فتصف النرجسي بأنه “لا يسمع أي صوت سوى صوته الشخصي، محصناً نفسه ضد ما يمكن أن يحمله على الاقتناع والتسليم بالحجج الدامغة لمنافسه، وهو لا يفعل شيئاً سوى انتظار دوره في النقاش؛ حيث ينبغي لآرائه ووجهات نظره أن تكون حاسمة ويقينية وطاردة للشكوك.
إن هؤلاء لا يعترفون على الإطلاق بمشكلاتهم، ولا يتقبلون فكرة الاستعانة باختصاصي أو طبيب معالج، بل إنهم يظنون أنهم قادرون على سحب البساط من تحتك بلمح البصر، مثيرين فيك شعوراً بالقلق أو الرغبة بالبكاء أو الملل أو الاشمئزاز”.
ومن هنا مواصفاتهم المتباينة هي: التنمر، والمكابرة، والتسلط، والغرور، والقسوة، وتبلد المشاعر، وازدراء الآخر، والتشكيك بنواياه، والتصرفات المتناقضة، واستدراج المديح، والإدمان على ارتكاب الأخطاء.
إن الجمال الحقيقي والجاذبية المحببة يبدآن عندما ينتهي حب الذات المسرف والمفرط. فالنرجسيون، وفق المؤلفة، ينغمسون إلى أبعد الحدود في حب ذواتهم، وينشغلون بالحاجة إلى بلوغ الصورة المثالية التي ينتزعون من خلالها تقدير الآخرين، وصولاً إلى إثارة غيرتهم وحسدهم.
لكنهم في المقابل لا يُظهرون أي اهتمام بهؤلاء الآخرين ولا يتفهمون حاجاتهم، أو ربما يعجزون لفرط افتتانهم بأنفسهم عن رؤيتهم وتحسس آلامهم.
إن انتشار الإنتاج الثقافي والفني والأكاديمي الرديء والسطحي الذي يخلو من توفر الشروط الفنية والمعايير العلمية للإنتاج العلمي والأدبي والفني وانتشار التفاهة والتسطيح والسوقية التي أصبح يلمسها حتى عامة الناس فما بالك بالنقاد والمختصين والمبدعين، وأصبح البحث عن الألقاب وتصدر الأسماء الشاشات والصفحات ووسائل التواصل الاجتماعي والدكتوراه الفخرية التي تمنحها النوادي والتجمعات الفيسبوكية بدون نتاجات تنعكس على الألقاب وشراء الشهادات الأكاديمية وحملها والتنطع بها بدون أن يواكبها أي مقدرة علمية أو فنية أو مهارية أو ممارسات متصلة بالصفة أو اللقب، وهذا أعتقد ما يشعر به الكثيرون في كل الأوساط ويعانون نتائجه السيئة.
ضف لذلك السلوكيات التي تنتشر في هذه الأوساط التي وصلت إلى حد محاربة المبدعين والتشكيك في قدراتهم والتضييق عليهم وخلق حالة من العزل بإفقادهم الاستحسان والدعم والتفاعل الإيجابي بروح الفريق والمجتمع المتضامن ذي الأهداف المجتمعية الموحدة التي يمكن للنجم أن يحلق فيها بتفاعله مع محيطه وليس بإقصائه.
وهنا يجب علينا تقديم مثال حي للإشارة والتبيان لكل ذلك من بين الوسط الأدبي والثقافي، وحرصنا على انتقاء هذا المثال لأنه يترجم مواصفات النرجسية لبعض الكتاب والأدباء العرب الذين لهم أسماؤهم في الوسط الثقافي.
ونقتبس ما يؤكّد هذا المثال من دراسة الناقدة العراقية فريال جبوري غزّول التي نشرت في مجلة الكلمة العدد 2 فبراير 2007 تروي لنا مشاهد هذا الحدث الأدبي فتقول “شكّلت رواية أحلام مستغانميالأولى، ذاكرة الجسد، ظاهرة لم يسبق لها مثيل في مجال الرواية العربية الحديثة.
فبعد أن نشرت دار الآداب اللبنانية الطبعة الأولى منها في عام 1993، ونشرتها دار موفم للنشر الجزائرية في العام نفسه، تبعتها طبعات متتالية تقترب من خمس عشرة طبعة، وقد تجاوزت مبيعات هذه الرواية خمسين ألف نسخة (حتى تاريخ إعداد هذه الدراسة)، هذا على الرغم من سوء توزيع الكتاب في العالم العربي، وعزوف المواطنين العاديين عن القراءة عامةً، وعن اقتناء الكتاب الأدبي خاصةً. فما تكاد هذه الرواية تأخذ مكانها على رفوف مكتبات البيع حتى تتخطفها أيدي المشترين، مع العلم أن أعمالاً روائية متميزة لا تبيع في أحسن الأحوال أكثر من ثلاثة آلاف نسخة، مع أن مؤلفيها نجوم في حقل الرواية العربية.
ومن اللافت إزاء جماهيرية هذه الرواية اختلاف النقاد حولها اختلافاً بيّناً، وتضيف الناقدة فريال جبوري غزول “فمنهم من لم يكتف بالانصراف عنها، فقرر إدانتها لاعتبارات كثيراً ما كانت خارجة عن موازين النقد ومعاييره. وهناك من فتنوا بها وأشادوا بقيمتها. ولعبت الصحافة دوراً في الانتقاص من قيمة هذا النجاح الهائل. فزعم البعض أن مستغانمي انتحلت هذا العمل، ولكن اختلفوا فيمن يكون صاحبه الأصلي (وهذا الزعم في ذاته يشير إلى التفوق الأدبي الذي لا يمكن في نظر البعض أن تتميز به روائية ناشئة). فمرة يشار إلى الشاعر العراقي سعدي يوسف، ومرة أخرى إلى الشاعر السوري نزار قباني، ومرة ثالثة إلى الروائي الجزائري واسيني الأعرج (ربما لأنه أيضاً يكتب الرواية الشعرية مثل مستغانمي)، ومرة رابعة إلى الروائي السوري حيدر حيدر، إلخ.
فعوضاً عن الابتهاج بعمل أدبي يقبل القراء عليه، تسابقت الأقلام في استدعاء آباء غير شرعيين لهذه الرواية، وأطلق البعض عليها «الكتابة بالجسد» عوضاً عن «ذاكرة الجسد»، مما يتجاوز التلويح بالتزييف إلى التشهير بالكاتبة نفسها. وفقد كذّب سعدي يوسف ما قيل عن دوره في كتابة هذه الرواية. وذكر بالنص «الخبر غير صحيح وهو إساءة إلى أحلام وإليّ»، كما امتدح واسيني الأعرج أحلام مستغانمي باعتبارها «ظاهرة تستحق التأمل والقراءة» وقد نفى سهيل إدريس صاحب دار الآداب بشكل قاطع أي دور لنزار قباني في كتابة ذاكرة الجسد في مقالة في جريدة الحياة. بل ذهب لأبعد من ذلك حيث ذكر كيف أنه حدّث نزار قباني عن رواية ذاكرة الجسد وأهداه نسخة منها وقد قام نزار بقراءتها فشغف بها، وكتب كلمة على غلاف طبعتها الثالثة.وقام رجاء النقاش الناقد المصري بدراسة نقدية لكل من رواية وليمة أعشاب البحر لحيدر حيدر وذاكرة الجسد لمستغانمي، فهو يرى أن هناك تناظراً بين العملين، وإن كان يقرّ بأن “ذاكرة الجسد” تتفوق أدبياً على سابقتها “وليمة لأعشاب البحر”.
وأما أحلام مستغانمي فقد تعالت على هذا الاغتياب الرخيص، وأطلقت على هذه الكتابات ذات الطابع النميمي التي تدور حول ذاكرة الجسد تعبير «ذاكرة الحسد»، وطالبت بنقد أمين يصحح ويقيم ولا ينحدر إلى مستوى الترهات، فلا مانع عندها من أن يكون لها خصوم على شرط أن يكونوا شرفاء.
التلقي المتباين للرواية:
في نهاية المقال لابد أن نشير أن كل ذلك تعبير عن حالة النرجسية والاستعلاء والتفوق الزائف والحسد والغيرة المنفلتة التي تسود الوسط العربي كأحد معوقات الإبداع العلمي والأدبي والفني، وقد تكون هجرة العقول التي عالجناها في مقال سابق أحد أهم أسبابها هذا السبب!

Back to top button