فرنسا.. الجمهورية تحترق!
مصطفى الزائدي
ماكرون زعيم بالصدفة، جاءت به الأقدار لمواجهة فوز تاريخي كان قاب قوسين أو أدنى لزعيمة اليمين ماري لوبان في انتخابات عام 2017، أخرجته مؤسسة السلطة الفعلية في فرنسا وقدمته دون سابق معرفة بالسياسة!
قدم ضمن حملة أطلق عليها تسمية “الدفاع عن قيم الجمهورية” دون تحديد ماهية تلك القيم، هل هي قيم الثورة الفرنسية التي لخصت في “الحرية والمساواة والإخاء”، أم هي قيم الجمهوريات التي جاءت بعد نابليون، التي كان عنوانها الاستعمار البغيض وقمع الشعوب وقهرها، أم جمهورية ديجول وما حملته من بعض الاستقلال للفرنسيين ومحاولته التخلص من عقلية الاستعمار، أم هي قيم الجزء الحالي من الجمهورية الخامسة التي وضعت فرنسا تابعا ذليلا لبريطانيا وأمريكا ورأس حربة في ممارسة العنصرية والتمييز؟
لقد عاد الاستعمار الفرنسي إلى غرب إفريقيا، وشارك الجيش الفرنسي في غزو العراق وسوريا، وتدمير ليبيا، وزعزعة أمن تونس والجزائر، ونشر الفوضى في لبنان، لكن الأسوأ كان موقف الجمهورية من الإسلام والمسلمين، وفرض التمييز العنصري ضدهم، فتصدرت وسائل الإعلام حملات قبيحة لتشويه الدين الإسلامي، رغم كونه الديانة الثانية في فرنسا، فنشرت رسوما مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وحُرق المصحف الشريف على الملأ، ومنع الأطفال من الدراسة والكبار من العمل وتلقي الخدمات على خلفية فرض خلع الحجاب الذي يرفضه المسلمون الفرنسيون، ومنع بناء المآذن، ورفع الأذان للصلاة، بتبريرات متناقضة عنوانها رفض خطاب الكراهية وحقوق التعبير وفق معايير مزدوجة ومتناقضة!
الأخطر.. ما يتعرض له المهاجرون الأفارقة والعرب من تمييز عنصري بغيض، فلقد دفعوا للعيش في ضواحٍ بائسة بالمدن، ومنعوا من حقوقهم، ويواجهون تسلط وقمع البوليس، فحادثة قتل شاب جزائري عمدا عند نقطة تفتيش لم تكن الأولى وليست الأخيرة!
لن ينجح الإعلام مهما كان حجم المساحيق التي يستخدمها، في إخفاء قبح الجمهورية في فرنسا وفي كل الدول الغربية، فالواقع يكذب الادعاءات!
انتفاضة فرنسا المستمرة منذ أسبوع تعكس الحقيقة وتعري الجمهورية من قيمها المغشوشة، فتظهر حقيقة الدولة القمعية في الغرب، دولة بوليسية لا علاقة لها لا من بعيد أو قريب بالديمقراطية ولا الحرية والمساواة ولا الإخاء وحق التعبير ولا حقوق الإنسان!
ففي حقبة ماكرون من الجمهورية الخامسة، تظاهر ملايين الفرنسيين لسنوات متواصلة فيما عرف “انتفاضة السترات الصفراء” فواجهتهم هراوات البوليس وقنابله وغازه المسيل للدموع والمسبب في الاختناق والموت!
ومنذ شهور يتظاهر الفرنسيون رفضا لقانون التقاعد، فكان مصيرهم مصير أصحاب السترات الصفراء!
قبل كل ذلك كانت انتفاضات ضواحي باريس الدموية التي قتل فيها عشرات الشباب من المهاجرين بدماء باردة، إلى جانب احتجاجات دائمة للفلاحين والعمال والطلاب.
هنا يبرز السؤال: أين قيم الجمهورية؟
هل حقا الشعب الفرنسي يدير الدولة من خلال مؤسسات تشريعية وتنفيذية محلية ومركزية منتخبة؟
الواقع يقول إن الشعب غاضب في الشارع، وصل به الغضب إلى حد تدمير المؤسسات والمقار والمحلات، وصلت إلى عشرات الآلاف حسب إحصائيات الشرطة الرسمية، وحرقها وتوسع دائرة العبث والنهب!
فهل شعب يعيش الحرية والمساواة والإخاء، يعبر عن مطالبه بطريقة كهذه؟
وأيضا ماذا لو كان ما يجري هذه الأيام في باريس والمدن الفرنسية، جرى في بلداننا؟
أتصور أنه عندئذ ستحشد وسائل الإعلام ألسنتها وتجهز الجيوش قوتها، ويصير التدخل لحماية حقوق الناس أمرا دوليا!
ولنا في التاريخ القريب المثال الصارخ!
في ليبيا 2011 حصلت مظاهرات محدودة وشغب بسيط، نفذ جزء منها وفق خطة موضوعة من قبل عملاء أجهزة غربية بإدارة الفرنسي برنارد ليفي، فسحبت الدولة الشرطة والجيش من المدن التي وقعت فيها الأحداث وسحبت أسلحتها لكي لا تحصل مواجهة قد تكون دموية، فماذا كانت النتيجة؟! ادعى الغرب بقيادة فرنسا أن النظام يقتل شعبه، وحشد قوته وشن الحرب على ليبيا واستولى عليها ونصب نفسه وصيا على شعبها!
وفي العام الماضي أشعلت بعض الخلايا الغربية شرارة مظاهرات في إيران بادعاء أن شرطيا ضرب فتاة نزعت حجابها فماتت بعد أيام نتيجة ذلك، وصور الإعلام الغربي الحدث بأنه حرب بين الدولة والشعب، ولولا قوة الردع الإيرانية لكان مصيرها مصير ليبيا وسوريا!
خلاصة القول.. ما يجري في فرنسا من انتفاضة دموية غاضبة يزيل القناع عن أكذوبة، قيم الجمهورية التي يدّعي ماكرون أنه لن يتردد في استخدام أي شيء لحمايتها!!