تلاشي مدخرات الليبيين بفعل العمالة والنهب
محمد جبريل العرفي
في 25/10/1961 تم تصدير أول شحنة من النفط الليبي، نصيب ليبيا كان الفتات من دخل النفط، لم يستثمر بشكل جيد، فاستفاد منه الفاسدون والمتنفذون. رحم الله الشاعر جعفر الحبوني الذي وثق فساد المرحلة بقصيدته المشهورة “وين ثروة البترول يا سمساره… اللي عالجرايد نسمعو في اخباره”.
عام 1970 تحرر النفط واسترد الليبيون حقهم من عائدات نفطهم، نص قانون التخطيط على تخصيص ما لا يقل عن 70% من دخل النفط للتنمية، فتحقق وفر مالي استثمر في تنمية صناعية وزراعية وإسكانية وبنية تحتية.
استمرت التنمية إلى أن انهارت أسعار النفط عام 1984، وبشكل مفاجئ، ففي ليلة واحدة هبطت الأسعار من 13 إلى 4 دولارات للبرميل. تبعاً لذلك هبط الاحتياطي من العملة الأجنبية إلى وضع مزعج، وصل إلى أقل من 200 مليون دولار، مما أوجب اتخاذ إجراءات احترازية بتحديد أولويات الإنفاق، بإيقاف المشروعات الجديدة، وترشيد الاستيراد. أعطيت الأولوية للخدمات الأساسية في التعليم والصحة والكهرباء، ودعم السلع التموينية الثماني. لم يشعر المواطن بالأزمة – رحم الله الأستاذ رجب المسلاتي قاد تلك المرحلة بكفاءة – وبتلك السياسة الحكيمة تم اجتياز الأزمة المالية العالمية بنجاح، في وقت انهارت فيه دول وأعلنت إفلاسها.
وما أن تحسنت الأسعار وتنفسنا الصعداء، حتى جاءت مؤامرة لوكربي ومقاطعة وحصار جائر لعشر سنوات، كنا في أمانة النفط نضع الحصار البحري أحد السيناريوات تحسبا لتوفير البنزين الذي نستورد منه 45% من استهلاكنا.
تم اجتياز أزمة لوكربي بحكمة وشجاعة، وخرجت منها ليبيا أقوى وأغنى، فتجاوزت مدخراتها 340 مليار دولار، منها 170 مليارا سيولة و148 طن ذهب واستثمارات خارجية.
فوضع مجلس التخطيط العام خطة تنمية طموحة، اعتمدتها المؤتمرات الشعبية الأساسية، منها 500.000 وحدة سكنية و12 مركبا جامعيا و7 مطارات وخط سكة حديدية، ومدن رياضية ومحطات توليد. فتمت ترسية 13000 مشروع بقيمة 145 مليار دولار، وانطلقت عمليات التنفيذ، من قبل شركات عالمية من 70 دولة بما فيها الدول الخمس دائمة العضوية. تلك الخطة وضعت وأقرت ونفذت وفق الآلية الجماهيرية البديعة، وليس كما يحاول البعض تجييرها لشخص بعينه. كانت المشروعات تسير بوتيرة متسارعة وبعضها قارب على الانتهاء.
عام 2011 وقعت الكارثة بتنصيب الكبير محافظا للمصرف المركزي، فعاث في المقدرات فساداً، فعلاوة على استخدامها لشراء الذمم والتهريب بالاعتمادات، وتمويل الميليشيات، يقترف اليوم جريمة كبرى بشراء أرصدة الدول الدولارية. التي بدأت الدول بالتخلي عنها لإدراكها انهيار الدولار. التقارير العالمية تذكر أن الدولار بعد 5 سنوات سيفقد 90% من قيمته الشرائية، وخاصة بعد اعتماد عملة البريكس في التبادل التجاري، أمريكا رات أن الدول الغنية الضعيفة مثل ليبيا والكويت وسنغافورة ممكن أن تؤجل الانهيار وتحد من تسارعه. ولهذا تضغط عليها للاحتفاظ بأرصدتها بالدولار، لكن كثيرا من الدول ترفض ذلك بما فيها الدول المحمية من أمريكا مثل اليابان وكوريا الجنوبية. الكبير فعل العكس فاحتفظ بالأرصدة بالدولار، بل اشترى أرصدة دولارية من الدول المتخلية عن الدولار بما فيها بريطانيا ذاتها.
هذه جريمة يعاقب عليها القانون.. لكن الواضح أن المدخرات الليبية يتيمة ليس لها من يحميها أو يقتص من العابثين بها.
أما الشق الثاني من المدخرات المتمثل في الاستثمارات الخارجية فعصابة (الدبيباتشليد) تنافس الكبير في جرائمه، وخاصة ارتشاءهم من بيع الاستثمارات الخارجية أو استحواذهم عليها برخص التراب، آخرها ثلاثة فنادق بأفريقيا معروضة للبيع بقيمتها الدفترية أي بمليون دولار واحد فقط لفندق خمسة نجوم مكون من 310 غرف.
ولم تنج من جرائمهم المنشآت الاقتصادية المحلية، الآن يحاولون تمليك شركة الشاحنات بتاجوراء لعصابتهم. لتكتمل حلقة (ايفكو) التي اشترت الدبيباتشيلد حصة ليبيا فيها عن طريق شركات يملكونها، على أثر ذلك تم تشكيل لجنة للشروع في تقييم الاستثمارات الخارجية، بدأت عملها، وكان يفترض أنها تغادر ليبيا منتصف 2011، هذه يذكرنا بإقرارات الشفافية التي وضعت الدبيبة على رأس قائمة 861 فاسدا، وكانت تعد العدة للاقتصاص منهم، ولهذا انضم (الدبيباتشيلد) إلى الفئات الخمس التي كانت تحمل الضغينة وشاركت في مؤامرة 2011.
موضوع المدخرات يتعلق بمستقبل الأجيال، ولهذا كنا نعتمد سياسة (تدوير نافورة النفط). لكن باستمرار هذا العبث فسنجد أنفسنا دولة مدينة تستجدي القروض من المؤسسات المالية العالمية، بما يعني ذلك فقدان السيادة وسحق الفئات الضعيفة. البديل عن الكارثة أن تقوم الجهات الرقابية والقضائية بالاضطلاع بدورها في صون وتنمية المال العام. وقبل ذلك وجب عزل عميل الإنجليز المتفرد بالقرار بالمصرف المركزي، وغل يد عائلة النهب النهمة. استمرار وجود كارثة وطنية، فلو تمت الانتخابات وهم خارج القضبان فستنتج سلطة فاسدة لأن “الأقوياء هم الذين يحكمون”، وهؤلاء أقوياء بأموال الليبيين. اللهم فاشهد.