مقالات الرأي

الفوضى الخلاقة وتهيئة المناخات

ناجي إبراهيم

أوردت وكالة سبوتنيك الإخبارية الروسية خبرا مفاده أن واشنطن تسعى لإقصاء (النواب والدولة) لتشكيل اللجنة رفيعة المستوى الجديدة في ليبيا.
هذا التصور كان قد لوح به المبعوث الدولي باتيلي في حال فشل البرلمان والدولة في صياغة قاعدة دستورية، وحدد لهم مهلة تنتهي اليوم، ويبدو أن باتيلي لا ينطق على هواه، بل كان ينفذ تعليمات تلقاها من الإدارة الأمريكية.
هل فشل طرفا الحوار الليبي في بوزنيقة أم أُفشِلوا؟
الإيجابي الذي يطالعنا به الخبر هو تخليص الليبيين من جسمين ثقيلين جثما على أنفاسهم قرابة عشر سنوات دون أن يقدما ما ينفع الناس، بل كانا سبباً في تدهور الحياة المعيشية والأمنية، وكانا سبباً في الانقسام السياسي والمؤسسي وبشكل متصاعد ينذر بتهديد الوحدة الوطنية.
ليبيون أرهقهم الوضع المزري الذي طال جميع مناحي حياتهم، يعتبرون طرفي الصراع، بل أطراف الصراع المسيطرة على الشأن الأمني والسياسي سبباً فيه، فأي إجراء يرفع عنهم هذه الأوضاع ويكف يد هذه الأطراف أو بعضها مصدر لفرحتهم، وتلك أماني وطموحات الليبيين، لكن نوايا ومقاصد السياسات الأمريكية والدول المتدخلة تصب في مسارب واتجاهات أخرى تخدم مصالحهم وتبقي وتطيل المراحل الانتقالية وحالة السيولة التي تطبع الأوضاع في ليبيا التي تشكل مداخل وبوابات لمزيد من التدخلات الخارجية.
الذهاب إلى بوزنيقة في المغرب والتي تتواجد بها أكبر محطات المخابرات الأمريكية خارج الولايات المتحدة لم يكن صدفة واختيارها كان مقصودا ومبرمجا لتكون النقاشات تحت نظر ومراقبة المخابرات الأمريكية “صورة وصوت” بما يسمح لهم التدخل في مسارات النقاش والحوارات والصياغة.
دائماً البدايات تنبئ بالنهايات والخواتيم والنتائج، ما جرى في بوزنيقة وما سبقه من تصريحات داعمة لمسار الانتخابات حمل في طياته بذور الفشل والتي كانت متوقعة لأنها بنيت على تصريحات علنية ظاهرها يتوافق مع آمال وأماني الشعب الليبي في بناء دولة آمنة مستقرة والانتهاء من المراحل الانتقالية التي ساهمت في تفشي الفساد وسمحت للفاسدين بالنفاذ من الملاحقات القانونية وعطلت عجلة التنمية وفاقمت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى حد لم يعد يطاق وباطنها هو ما نراه من نتائج على الأرض.
جاءت هذه التصريحات التي أعلن عنها المبعوث الأممي وسفراء البلدان المتدخلة في الشأن الليبي متطابقة مع تطلعات الشعب الليبي كعلاج لأوجاعه كما يبدو من ظاهر القول، إلا أن المبطن والذي يعكس عمق الأزمة الليبية وحجمها وتشعباتها لا تحله اجتماعات 6+6 ولا تنهيه انتخابات مهما كانت النوايا صادقة، بل لو جرت الانتخابات في ظل الأوضاع القائمة وخاصة من الناحية الأمنية وفي ظل سطوة الميليشيات على الشأن الأمني ستكون كارثة وسيعتبرها البعض شرعنة لحكمهم ومباركة لأفعالهم وسلوكهم وربما ستقودنا إلى حرب أهلية ينتج عنها تمزيق البلاد إلى كنتونات بحجم وعدد الميليشيات.
وتأتي المبادرة الأمريكية التي كانت متوقعة منذ أن لوح بها المبعوث الدولي باتيلي، وتوقع البعض أنها تأتي في سياق الضغط على الأطراف من أجل التعجيل في إيجاد سبيل للخروج من الوضع السياسي المتعفن والآسن، ولكن جاء العرض الأمريكي ليثير تساؤلات عن نواياه التي لا تعكس تصريحاته، ليضع عصيّا كثيرة في دولاب الحراك الذي بدأ من بوزنيقة كما تراءى للبعض، واعتقد البعض أنه الضوء في آخر النفق، ورآه آخرون أنه أول خطوات الانتهاء من العبث والجمود والفساد والمراحل الانتقالية، أمريكا لها قول آخر ومغاير (ليس بالإمكان أفضل مما كان)، وإذا ما علمنا أن هذا الوضع هي من هندسته ورسمت خريطته لغايات في نفسها ووجدت فيه أكبر المشروعات استثمارا.
وهي من تغذت على جميع الأزمات التي عرفها العالم، بعضها صنعته هي ذاتها وبعضها غذته ونفخت فيه بعرض وطول خريطة العالم التي تعرف أزمات وحراكا وصراعات يتداخل فيها السياسي والجيوسياسي والإثني وحتى الاجتماعي، أمريكا لها خبرة في المتاجرة بأزمات الشعوب، وهي ذات الخبرة التي تحاول أن تطبقها على الحالة الليبية لتجني أكبر المكاسب، حتى لو كانت أكبر الكوارث على شعبنا ومستقبله.
علينا أخد التصريح الأمريكي على محمل الجد، ولا يمكن التعامل معه على أنه تصريح إعلامي وبروبقاندة إذا ما تأكدنا أنه يتوافق مع مشروعهم في المنطقة الذي أطلقته (كونداليزا رايس) قبل خمس عشرة سنة (الفوضى الخلاقة) ورسم خارطة جديدة لمنطقتنا تقوم على الإثنيات والجهويات والطائفية الذي انطلق من العراق وقسم السودان وجار تنفيذه في مناطق أخرى كلما تهيأت مناخاته، وعلينا أن ندرك أن هذا المشروع هو مصلحة أمريكية صهيونية، وبات المشروع أكثر إلحاحاً بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا والتنافس على تقاسم مناطق النفوذ، أمريكا لن تسمح لليبيا بأن تفلت من يدها بعد أن أحكمت قبضتها عليها، وهم ساعون لتركيبها بطريقة تسمح لهم بإدارتها بما يخدم مصلحتهم.
الإعلان عن تعطيل البرلمان الليبي وسلبه حقه في صياغة القوانيين الأساسية وكف يده عن تشكيل الحكومات والدعوة لتشكيل ما سموه اللجنة رفيعة المستوى والتي ستتشكل بمعرفتهم على غرار لجنة (الخمسة وسبعين) التي عينتها (وليامز) وأنتجت حكومة جنيف المفخخة بالميليشيات التي بددت حلم الليبيين في بلوغ الاستقرار وأفشلت انتخابات 2021 وستكون اللجنة القادمة سبباً آخر لقتل أي طموح لليبيين بالخروج من الأزمة وبلوغ الاستقرار.

زر الذهاب إلى الأعلى