الفصل بين يد الطبيب وجيب المريض يحد من هجرة الأطباء الشباب
محمد جبريل
نتيجة لنشر التعليم وتوسيعه أفقيا خرَّجت ليبيا أعدادا هائلة من الأطباء والمهندسين، بعضهم اضطروا للهجرة، فقد ذكرت نقابة الأطباء الألمانية، أن 909 أطباء ليبيين منحوا تصريح عمل سنة 2022، هذا رقم كارثي مقارنة بعدد سكان ليبيا، مع أنه لا يشمل السنوات السابقة ولا حملة الجنسية الألمانية ولا الذين رخصهم تحت الإجراء، وللبحث عن أسباب هذا النزيف للعقول الشابة، يمكن تحديد ثلاثة أسباب تكشف عن سوء الأحوال التي تدفعهم للهجرة، وهي (الاحتكار، والفساد، وسوء الإدارة).
ولنبدأ بالاحتكار.. اصطدم الشباب بممارسة الأنانية والاحتكار والإذلال وعرقلة نقل الخبرة من قبل قلة يدفعها الطمع، وتغريها المواقع، وترعبها إبداعات الشباب، فحولوا معظم الأقسام الطبية في الجامعات والمستشفيات إلى إقطاعيات لهم، لا يدخلها إلا أقرباؤهم أو المرضي عنهم، أو الصابرون على تحمل إذلالهم، وعيش حياة الرقيق، خاصة في أقسام الجراحة، فتحولت الأقسام إلى ملك خالص لهؤلاء الذين يملكون أربعين رجلاً في أقسام المستشفيات، وكليات الطب والعيادة الخاصة.
لا يستطيع شاب أن يعتب باب التخصص إلا بموافقة هؤلاء ورضاهم، فإن كان الشاب محظوظاً، وقدم آيات الولاء والطاعة، فستكتب عليه العبودية لسنوات، ويحرم من التدريب العملي.
كما أن سيطرتهم على برنامج مجلس التخصصات الطبية، منعت الشباب من التسجيل في امتحانات الزمالة الليبية أو العربية، وعرقلة اجتيازهم لامتحاناتها، فكم شاب حكم عليه بالإعدام مهنياً.
اكتملت في يد المحتكرين كل الحلقات ومفاتيح الأبواب التي تؤدي بالشاب الطموح إلى التطور ورفع الكفاءة.
السؤال الذي يفرض نفسه، ما الدوافع لهذه السلوكيات المريضة؟
أولها: الطمع والاحتكار، فكل واحد منهم يريد أن يستمر وحيداً ومميزاً، ومن ثم يستحوذ على سوق الطب، وساعات التدريس الإضافية، واحتكار العمل في العيادات الخاصة، فلا يمكن للأطباء الشباب العمل إلا من خلال الاستشاري، وكأنه تاجر في الأيدي العاملة.
ثانيها: الخوف من قدرات وإبداعات الشباب، المتشبع بروح التقنية الحديثة، والإبحار في شبكات المعلومات، للاطلاع على الجديد في مجال الطب. كما أن العمل الخاص لا يترك لهؤلاء وقتاً للقراءة والاطلاع على الجديد فتخلفوا عن الركب التقني المتسارع.
ثالثها: قناعة بعضهم بأن زيادة أعضاء هيئة التدريس الجامعي، ستفقدهم عدد الساعات الإضافية.
مع التقدير والإجلال للمخلصين المتفانين في بناء التقدم، وتوطين التقنية، الذين يأخذون بأيدي الشباب لخلق تواصل للأجيال، وهؤلاء نجوم تتلألأ في سماء تغطيها سحب صيف من الفاسدين والمحتكرين، وحتماً ستنتصر جهود المخلصين لكشط هذه النمشات عن وجه قطاعنا الصحي العريق.
هذا عن الاحتكار العامل الأول لهجرة العقول الشابة. العوامل الأخرى للهجرة أن القطاع الصحي مصاب بفيروس الفساد وسوء الإدارة، النفعيون يتكالبون على الوزارة لنهب الموازنات الضخمة مما أدى لتهالك البنية التحتية للمؤسسات الصحية العمومية وافتقارها للمعدات الضرورية والأدوية، وحدوث فوضى وتعارض المصالح والاختصاصات، إضافة إلى تخريب الأجهزة بالمستشفيات العامة، والتفريط في مستلزمات تشغيلها، ليتم توجيه المرضى إلى العيادات والمستشفيات الخاصة مما أنتج قطاعا خاصا متغولا يعمل من دون إشراف ولا متابعة ولا مراقبة جودة.
ملف علاج الجرحى والعلاج في الخارج بؤرة للفساد؛ فقد تم نهب المخصصات، مما راكم الديون بمئات ملايين الدولارات، ففي تونس تتجاوز 100 مليون دولار، وفي الأردن 210 ملايين دولار. مما أوقف استقبال المرضى وإيقاف العلاج، مأساة أطفال الأورام نموذج لجريمة متكاملة الأركان.
يتم ذلك مقابل إنفاق الملايين على المرتزقة السوريين وتمويل أضرار زلزال تركيا وغيرها من ممارسات النهب والتبذير.
معضلة الهجرة قابلة للحل لو خلصت النوايا واتخذت إجراءات جدية وحدية مثل:
إنهاء احتكار أمناء الأقسام العلمية والطبية لانتساب الأطباء الشباب إليها، وليتم التنسيب مركزياً من جهة الإدارة بوزارة الصحة والتعليم.
إنهاء سيطرة رؤساء الأقسام على الدخول لامتحانات الزمالة الليبية والزمالة العربية.
جعل رئاسة الأقسام العلمية والطبية دورية، لمدة محدودة ولدورة واحدة فقط.
ربط المزايا المالية والترقيات العلمية بدور الأستاذ في التدريب والتعليم العالي.
الفصل بين يد الطبيب وجيب المريض بمنع الجمع بين العمل في القطاع العام، والعمل الخاص، تحت أي مسمى.
كسر حلقات الاحتكار الثلاث القائمة الآن، لأن وجود المفتاح في يد شخص واحد، هو رئيس القسم الجامعي، وفي الوقت نفسه يهيمن على القسم بالمستشفى، وهو المكلف بمجلس التخصصات الطبية، مما يغريه بالاحتكار، واضطهاد الشباب.
القضاء على ظواهر الفساد وسوء الإدارة.
إذا لم تتخذ إجراءات جدية حدية لمعالجة الوضع، فإننا نرى الكيل بدأ يفيض، والصبر بدأ ينفد والوضع مهددا بالانفجار.