مقالات الرأي

الذوق الجمعي وعصر التفاهة

محمد بوخروبة

يعاني العالم فوضى عارمة تخطت كل القيم الإنسانية النبيلة، كذبا وزيفا وتطرّفا وبذاءة وتنمّرا، عنفا في الكلام والكتابة، عنفا في الأفلام، في البرامج، عنفا في الظهور، عنفا في كل شيء.. نحن نعيش عصر الحماس التافهة، عنف الكلمات وزيْف الصور والتنمُّر الثقافي باسم النقد، إنهم يهربون من واقعهم الحقيقي إلى واقع افتراضيّ ليمارسوا فيه العبثية بحرية وفخر وبمجانية.
إنّ المحتوى الجيد أو الموضوع المفيد لا ينال إعجاب الجمهور، وإنما عدد قليل من هذا الجمهور يحترم المحتوى الجميل أو الأداء الرائع ويشجع المبدعين الرائعين، وفي هذا بصيصُ أمل، أما التفاهة فتنتشر بجنون سريع، مثل النار في الهشيم، وتحصد إعجابات ومشاهداتٍ لا مجال لحسابها، على مواقع الإنترنت تشتعل بشكل مستمر معارك لفظية، تدور صراعات غوغائية وانفلاتية، والسلاح المستخدم فيها هو الكلمات أو المنشورات المتعجرفة والفَجّة والغبية، منتهى الغباء، فيتم تدمير اللغة والدوس على شرفها المقدَّس، يا لَهُ من عبث مُخيف هذا الذي يتناسل ويزدهر في فضاءٍ عالميّ وهميّ يزداد جمهوره على الدوام.
التفاهة ضرْبٌ من العنف اللغوي والذهني والنفسي الذي ينعكس تأثيره السلبي على النفوس والعقول فيفسدها بسرعة مفعوله، ولكن العنف اللفظي يتحول مع مرور الوقت إلى عنف مادي، فحروبٌ كبيرة في التاريخ بدأت من كلماتٍ سيئة وألفاظ هجومية عنيفة، والتفاهة التي أسمّيها عنفًا هي تلك الثرثرة الحنّانة الطنّانة التي تكتسح السوق في أيامنا، وتسمّم ينابيع الحياة.
في ليبيا مثلا، بلدي الغريق في جحيم الصراع العُنْفي، يتلوث كل شيء، أزمات متكررة وخطابات عنيفة تحتقر العقول وتُصدّع القلوب، خليط من العنف يلتهم حياتنا، يُفتِّت استقرارنا بلا رحمة، والمجتمع الذي يسوده العنف يضطرب فيه التفكير والمنطق والروح الأخلاقية تتدهور تدريجيًّا، إنّنا لا نعرف حياة الهدوء والاستقرار، ولذا نهرب إلى مواقع التواصل كي نفرغَ مشاعرنا السلبية في منشورات عُنفيّة، وفيديوهات مبتذَلة.
إن أهمّ ما يرغب به المرء في هذه الوسائل والمنصات، هو الحصول على الإثارة كيفما كانت، وبالتالي عليه أن يُصفِّقَ للتفاهة، ويعجبَ بها ويساهمَ في ترويجها، حتى يصبح هو أيضًا تافهًا بمرور الوقت، ولذا فإنّ شبكات التفاهة تقدم الإثارة الرخيصة لجمهورها السطحي وتكتسِح الصدارة.
ويزداد انتشار التنمر الثقافي وثقافة التنمر على هذه المواقع والتطبيقات، بل إنّ معظم وسائل الإعلام أصبحت تقدم لجمهورها محتويات تتضمن الإثارة العنيفة في برامجها السياسية والثقافية، والجمهور يعشق هذه المواد المثيرة، ويلهث وراء أيّ محتوى فيه إثارة أو حماسة أو كذب وضجيج أو بذاءة، وكأنّ متابعي قنواتِ الثرثارين المشاهير لا يحتملون قضاء أوقاتهم بهدوء ونضج واحترام للذات.
إنّها إثارة غير طبيعية أو فورية، ولكنها مصطنعة، زائفة ومشوهة وغير إنسانية ولا أخلاقية، هذه الإثارة هدفها الأوحد إفساد طهارة الأرواح وتشويش الأذهان.
وبكل إسراف تُمطرنا بعض المواقع بمحتويات إعلامية وإعلانيّة مصنوعة من أفكار مريضة، وبأساليب مُنفِّرة وألفاظ خالية من المعنى، تفتقر إلى الفلسفة إلى الفن وإلى البساطة والعمق، وإلى النزاهة، وبالتالي تكون مؤذية لمشاعرنا وتفكيرنا، إننا نتجرّع فيديوهات ضاجة بالتفاهات والمؤثرات المُزعِجة.
تفاهة كل غايتها استثارةُ المشاعر والرغبات، لا مخاطبة العقول، تركز على الغرائز وحدها، تستغل العواطف وتنجح في تحويل أصحابها إلى مجانين استمتاعيين بالهُراء والوهْم.
أمّا الذوق الجمعي فقد أصبح مدمنًا على لغة العنف، وثقافة الوهم وضجيج الأحداث العابرة، لنجعل كل شيء مثيرًا وممزوجًا بالسخرية والعبث والإغراء، هكذا يفكر الأوغاد الساعونَ إلى الربح والشهرة، وهذه طريقتهم لجذب الجمهور.
الواضح أنه يزداد هذا العبث كلما تقدمت البشرية تكنولوجيًّا وصناعيًّا، في الواقع، كلما كبُرَ خيالُ العالَم وتطورت أدواته ووسائله وطرُقه، انفلتت رغباته من عقالها واضطربت حياته، واتسعت شهيته وشهوته لمزيد من الاستهلاك والثرثرة والصراع مع طواحين الهواء، والتقدّم هو في الحقيقة إثارةٌ اندفاعيّة أو بالأصح عُنفٌ مُطوَّر.
فأي مجتمع لا يحترم نخبته المثقفة يغرق في الظلمات، ويعيش زمنًا طويلًا خارج التاريخ، وحاليًّا يستطيع أيّ صانع محتوى عديم موهبة وقليل ذوق، وكثير ادّعاء ويتصنّع الحماس، أن يخدع الكثير من الناس، ويسيطر على عقولهم، ويحولها إلى حاوية يرمي فيها نفاياته النفسية والعقلية.

زر الذهاب إلى الأعلى