في الجــــلاء
مصطفى الزائدي
أنا من الكثيرين الذين لم يفهموا الأسباب وراء إلغاء إحياء ذكرى الإجلاء، إلا لكونها إرادة الدول صاحبة القواعد المطرودة من ليبيا في بداية سبعينات القرن الماضي!
وهذا يعني ببساطة أنه لو لم يكن الإجلاء أمرا عظيما كما يروج البعض لما عملت تلك الدول على إخفاء الحدث ومحاولة تسفيهه ومحوه من الذاكرة الشعبية.
لقد كانت الحربان الأوروبيتان الأولى والثانية اللتان دارت رحى بعض معاركهما بين الدول الأوروبية على أراضي أفريقيا وآسيا بداية النهاية لحقبة الاستعمار الأوروبي المباشر البغيضة، وظهور حركات التحرر الوطني ورفع مطالب الاستقلال الوطني ورفض الهيمنة الأوروبية على السياسة والاقتصاد، وفي مقابل ذلك عملت الدول الاستعمارية على الحفاظ على وجودها من خلال تواجد عسكري مكثف في شكل قواعد عسكرية، ومن خلال تنصيب حكومات مرتبطة بها تخدم أجنداتها، لذلك كان من أولويات حركات التحرر الوطني في العالم المستعمَر سابقا، تغيير الحكومات العميلة وإجلاء القواعد الأجنبية.
في الوطن العربي كانت الانطلاقة الفعلية مع تفجر ثورة 23 يوليو التي نجحت في إسقاط الحكم الأجنبي لمصر الذي امتد لقرون، وإنهاء النفوذ الإنجليزي في الدولة المصرية، فكان إجلاء القواعد الإنجليزية من مصر عام 1956، وما نتج عنه من عدوان ثلاثي، وسارت على خطاها ثورات سوريا والعراق الوطنية.
في ليبيا بعد الثورة في 69 كان المطلب الأهم إجلاء القواعد الأجنبية على رأس الشعارات التي رفعتها الثورة الفتية، وفي مقدمة مطالب الجماهير التي خرجت تؤيدها، فجرت منذ الشهور الأولى بعد الثورة مفاوضات محددة الهدف وبجدول أعمال من بند واحد، فلم تتعرض لمبدأ خروج القواعد من عدمه، بل كان التفاوض فقط في الجدول الزمني لخروج آمن.
وهكذا خرج آخر جندي بريطاني عن قاعدة العدم في 28 مارس 1970، وخرج آخر جندي أمريكي من هويلس في 11 يونيو 1970، وسميت قاعدة عقبة بن نافع ولاحقا معيتيقة، الحدث الأهم كان إخراج عشرات آلاف المستوطنين الطليان الذين استوطنوا ليبيا في عملية تغيير سكاني كانت الأبشع في التاريخ لكي تتحول ليبيا إلى شاطئ رابع لإيطاليا وتصبح جزءا منها أرضا وسكانا بعد تهجير الليبيين وإبادتهم، في 7 أكتوبر 1970.
لا شك في أن القواعد الأجنبية في ليبيا لم توجد بإرادة وطنية، بل كانت تحصيل حاصل لاتفاق الدول المنتصرة في الحرب، ووفقا لتفاهمات يالطا التي قسم فيها المنتصرون في الحرب العالم فيما بينهم، وتحولت ممتلكات دول المحور إلى غنيمة للحلفاء، ولقد نجح الإنجليز في خديعة ستالين وإخراج روسيا من ليبيا خاوية الوفاض، وتسلمت بريطانيا مقاليد إدارتها كليا، فمنحت الجنوب للفرنسيين يديرونه كما يديرون تشاد والنيجر والجزائر وربما يضمونه لها، ومنحت حق التصرف للمستوطنين الطليان في طرابلس تحت نظرهم.
لكن الشعب الليبي رغم ظروفه السياسية والاقتصادية البائسة ومنذ اللحظات الأولى رفض القواعد وخرجت التنظيمات السياسية الوطنية المتمثلة في حزب المؤتمر الوطني وجمعية عمر المختار تقاومه بكل الوسائل وتحرض عليه، ونجحت حكومة محمود المنتصر التي فرضها الإنجليز في انتخابات مزورة، في تمرير اتفاقية القواعد من مجلس النواب رغم رفضها من لجنة الشئون الخارجية، عام 1964 حاول عدد من النواب الوطنيين المطالبة بالإجلاء، لكن الحكومة قابلت ذلك بالتسويف، وتم حل مجلس النواب.
لابد من النظر إلى الجلاء كحدث وطني تاريخي، وليس بمنظار الاتفاق مع هذا النظام أو ذاك فتلك مسائل تختلف حسب الوقت وباختلاف القناعات السياسية والخلفيات الثقافية!
كما أن البحث عن ذرائع لعدم إحياء ذكرى الجلاء من قبيل أن النظام الملكي هو من حقق الجلاء أو أن الاتفاقية منتهية، لا يدل إلا على استخفاف بالقضايا الوطنية، واستهانة بالمعطيات التاريخية، فلو سلمنا جدلا بذلك فهذا يفرض على الجميع إحياءها وليس التنكر لها.