ملفات وتقارير

الذكرى 53 لإجلاء القواعد الأمريكية تمر وسط استمرار صمت الحكومة

القواعد الأمريكية فصلت ليبيا عن محيطها العربي وعمقها الأفريقي وشكلت تهديداً لجيرانها

حلّت أمس الأحد الذكرى “الثالثة والخمسون” لإجلاء القواعد والقوات الأمريكية عن ليبيا، في الحادي عشر من يونيو للعام 1970، هذه القواعد التي كانت جاثمة على صدور الليبيين، وهيمنت على مقدراتهم فترة من الزمن، واستعملت لوقف المد القومي في البلاد العربية ولضرب قواه الحية ومراقبة السواحل الليبية خدمة لمصالح أمريكا وحلفائها.
هذه الذكرى التي يحاول ساسة اليوم طمسها من تاريخ بلادنا بدعوى أن الإجلاء كان مقررا مسبقاً وفقاً للاتفاقيات الموقعة بين حكومة المملكة الليبية وأمريكا، إلا أن التسويف والتزوير لا يمكن أن يغير حقائق التاريخ، وهنا في هذا البراح نسرد هذه الحقيقة كما وثقها المؤرخون ووثقتها ذاكرة من شهد تلك الأيام.
تواجد القوات الأمريكية في ليبيا
كان التواجد الأمريكي في ليبيا موزعا على عدد من القواعد والتمركزات العسكرية في كل من طرابلس ومصراته والوطية ودرنة وكان أكبر تواجد لها في قاعدة “ويلس” الجوية الأمريكية الواقعة شرق طرابلس وتحتضن أكثر من 4600 جندي أمريكي، إضافة إلى بعض العناصر المتسترة بستار المدنية من بينها عناصر من بقايا الإيطاليين، وكانت القاعدة موطنا ومرتكزا مهما للولايات المتحدة في المنطقة، حتى وصفها سفير سابق لواشنطن في ليبيا بكونها أمريكا مصغرة على ضفاف البحر المتوسط.
يعود تاريخ تواجد القوات الأمريكية بهذه القاعدة إلى ما بعد انتصار دول الحلفاء في معركة “العلمين” شرقي ليبيا، وفرض بريطانيا سيطرتها على الشمال الليبي عام 1943م، وفيه سمحت القوات البريطانية للقوات الجوية الأمريكية بإنشاء مطار الملاحة واستخدامه كقاعدة عسكرية لقواتهم الجوية، وقد عُرف المطار بقاعدة “ويلِس” الجوية.
الاتفاقية الأولى للتواجد الأمريكي بدون موافقة البرلمان
بعد صدور قرار الأمم المتحدة القاضي باستقلال ليبيا في 24 ديسمبر 1951 تم تقنين تواجد القوات الأمريكية بموجب اتفاقية تم توقيعها مع رموز المملكة الليبية في تاريخ الاستقلال، مُنحت أمريكا بموجبها حق البقاء في قاعدة “ويلس” الجوية لمدة عشرين عاماً قابلة للتجديد، متضمنة حق السيطرة الكاملة على الأجواء والمياه الليبية، وإعفاء القوات الأمريكية من جميع الرسوم والضرائب وعدم سريان القانون الليبي على أفراد القوة المتواجدين بالقاعدة وما يجري بداخلها، كل ذلك مقابل مليون دولار تدفعها الحكومة الأمريكية سنوياً لحكومة المملكة الليبية، مع العلم بأن البرلمان الليبي في ذلك الوقت لم تُعرض عليه الاتفاقية ولم يجزها، وتم التوقيع عليها من قبل حكومة “محمود المنتصر” بأوامر من الملك إدريس السنوسي.
الاتفاقية الثانية وضغط الحكومة على البرلمان للمصادقة
في سبتمبر 1954م تم توقيع اتفاقية جديدة في بنغازي بين حكومة “مصطفى بن حليم” والحكومة الأمريكية، وأبرز ما تضمنته بالإضافة لما ورد في اتفاقية 1951 أن للحكومة الأمريكية الحق في استعمال المناطق التي تشغلها للأغراض العسكرية أو أية أغراض أخرى، وحقها في مراقبة السفن والطائرات والمراكب المائية التي تدخل للمناطق المتفق عليها، بالإضافة للوصول الحر للطائرات والقوات والمركبات المائية الأمريكية، ومنحها حق الحركة الحرة داخل ليبيا، كما أعطت الاتفاقية لأمريكا حق إقامة مطارٍ في منطقة الوطية، وسارية إذاعية في مصراتة، ورادارات في منطقة طرابلس ودرنه وطبرق، بالإضافة لمحطة تلفزيون في قاعدة “ويلس”، كل ذلك مقابل مساعدة مالية أمريكية تقدر بنحو أربعين مليون دولار تقسم على عشرين سنة، تبدأ بدفع أربعة ملايين دولار سنوياً لمدة ست سنوات من عام 1955 حتى 1960، ثم مليون دولار سنويا بدءاً من عام 1960 إلى أن تنتهي سنوات المعاهدة، وتقديم كمية من القمح مقدارها 24 ألف طن خلال الفترة ما بين 1955/1954م، وقد تمت المصادقة على الاتفاقية رغم اعتراض أعضاء من لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان وهم النواب “صالح بويصير، مصطفى ميزران، رمضان الكيخيا، مفتاح عريقيب، عبدالسلام بسيكري، سالم بن حسين”، وتأييد فقط نائبين وهما “محمد سيف النصر، حسين الفقيه” وكان رئيس الحكومة “مصطفى بن حليم” قد عمل على إقناع واستدراج النواب المعارضين حتى يضمن موافقتهم على الاتفاقية، ومن هذه الترتيبات فقد ضم إلى وزارته كلا من النائبين “مصطفى السراج، عبدالرحمن القلهود” وهما من أقطاب المعارضة، كما قام الملك “إدريس السنوسي” بإعفاء “عمر الكيخيا” من منصبه كرئيس لمجلس الشيوخ لاعتراضه على الاتفاقية، التي وصفها الملك بأنها انتصار عظيم لليبيين!
المحاولات الوطنية لإلغاء الاتفاقيات
استمرت الهيمنة الأمريكية على الجو والأرض في ليبيا وتحكمها في مداخل أوروبا الجنوبية من خلال قواعدها بموجب الاتفاقيات الموقعة مع حكومة المملكة والتي تم تكبيلها أيضاً بالاتفاقية العسكرية التي وقعت في 1947 والتي فصلت ليبيا عن محيطها العربي بتحريم استخدام قدراتها العسكرية إلا بأوامر أمريكية، وهو ما أدى لعدم مشاركة الجيش الليبي في الحروب مع الكيان الصهيوني خلال تلك الفترة، الأمر الذي زاد من قوة المعارضة لهذه القاعدة التي ابتدأت من خطاب الزعيم جمال عبدالناصر في 22 فبراير 1964، والذي دعا فيه لتصفية القواعد البريطانية والأمريكية التي امتلأت بها ليبيا، باعتبارها مصدر خطر داهم على مصر والعرب، كما أبرز دورها في عدوان 1956 على مصر، وقد كان لهذا الخطاب دور فاعل في المطالبة الشعبية بتصفية هذه القواعد، وخصوصاً عندما قام عدد من أعضاء مجلس النواب يترأسهم النائب علي مصطفى المصراتي بتقديم مشروع قانون في مارس 1964ـ يقضي بإلغاء المعاهدات الليبية الأجنبية وتصفية القواعد العسكرية، وافقت عليه لجنتا الدفاع والخارجية اللتان أكدتا في مذكرتيهما بـــأن السبب الذي عقدت الاتفاقيات من أجله هو العجز المالي في خزينة البلاد، مع أن ليبيا أصبحت ذات إمكانات مالية تستطيع تغطية كل عجز، بل لديها من موارد البترول ما تستغني به عن الإعانات الضئيلة التي تنقص من حرية الوطن وسيادته.
قام مجلس النواب بإصدار قرار تاريخي في مارس 1964 باعتماد تقرير لجنتي الدفاع والخارجية والموافقة على مبدأ إنهاء الاتفاقيات الموقعة مع أمريكا وبريطانيا وتصفية قواعدهما وإعطاء فرصة للحكومة للتفاوض مع الدولتين لتصفية قواعدهما وإنهاء تواجد قواتهما على الأراضي الليبية، مشيراً في قراره إلى أن المجلس سيقوم بإصدار القوانين اللازمة لإلغاء هذه الاتفاقيات في حال فشل المفاوضات.
محاولات الملك لإجهاض قرارات مجلس النواب وتنامي المد القومي بعد حرب 67
اتخذت المعارضة للوجود الأجنبي في ليبيا مساراً وطنياً شارك فيه النواب الوطنيون بدعم من الشعب الذي حركته مشاعر القومية والعروبة إلا أن الملك إدريس السنوسي وللالتفاف على قرار البرلمان جمع زعماء القبائل بحضور رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب ورئيس الوزراء وأبلغهم بقراره اعتزال العرش، وكان هذا القرار هو رد على صدور قرار البرلمان بإلغاء الاتفاقيات مع أمريكا وبريطانيا، الأمر الذي تحركت معه بعض القوى ذات الطابع الديني والقوى المستفيدة من الوضع القائم لتحرك بعض الجموع الشعبية في مسيرة لمطالبة الملك بإلغاء قرار التنازل، وهو ما كان، وهدأ معه التيار الشعبي المطالب بالإجلاء، وتم حل مجلس النواب، وخلال تلك الفترة استمرت الحكومات المتعاقبة بإجراء المحادثات الصورية مع الجانبين الأمريكي والبريطاني نتجت عنها بيانات ركيكة بالإجلاء المشروط خلال مُدد لم يتم الالتزام بأي منها في محاولة للتسويف والاستهتار بمطالب الشعب الليبي.
استمر هذا الحال حتى حرب 1967 والتي ساندت فيها أمريكا العدو الصهيوني ضد الجيوش العربية، حيث تحرك خلالها الشعب الليبي من جديد للمطالبة بإنهاء وجود القواعد الأجنبية، واستمر الحال بين تسويف البريطانيين والأمريكان بالوعود بالإجلاء وبيانات الحكومات الليبية عن مفاوضات لم تأت بأي جديد سوى استمرار الوضع على ما هو عليه وإطالة أمد بقاء القواعد الأجنبية، كان آخرها وعود جوفاء بإنهاء وجود القوات البريطانية في فبراير 1968، ضاربين بعرض الحائط الاحتجاجات الشعبية وقرار البرلمان الليبي في مارس 1964، ومن بين التصريحات التي تؤكد عدم وجود النية لخروج قواتها من ليبيا ذكر بيان للخارجية الأمريكية في 17 يونيو 1967 “أن الطلب الليبي يهدد الوجود العسكري في المنطقة”.
ضرر القواعد الأجنبية على الليبيين والعرب
من المعلوم أن الشعب الليبي قد تضرر كثيراً من وجود القواعد الأمريكية في ليبيا وخاصة قاعدة “ويلس” التي كانت تشهد نشاطات مكثفة كونها تمثل أكبر قاعدة عسكرية لها في المنطقة، وتشهد نشاطاً مكثفاً لإعداد طواقم الطيران للقوات العسكرية الجوية لدول حلف شمال الأطلسي، وكانت سماؤها على مدار السنة مليئة بأسراب الطائرات التابعة لدول الحلف، الأمر الذي زاد من امتعاض السكان الرافضين لها، فضلاً عن تحريم الاقتراب منها، والحكومة ذاتها لا تعلم ماذا يحدث داخلها، وليس للقضاء ولا القانون الليبي سلطة عليها حتى بعد تضرر السكان منها نتيجة سقوط بعض الطائرات على المواطنين أثناء التدريبات.
كما كانت القاعدة مركزاً للمناورات العسكرية الصهيونية وتقدم التدريب للضباط والجنود العسكريين الصهاينة، بالإضافة للدعم العسكري بنقل السلاح من القاعدة إلى فلسطين المحتلة خلال حرب 1967م وهو ما أوردته صحيفة الأهرام في أعدادها المنشورة عام 1967.
ثورة سبتمبر وإجلاء القواعد الأمريكية
بعد قيام ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 تمت مباشرة المفاوضات الفعلية لإجلاء القواعد الأمريكية عن أرض الوطن وانطلقت المفاوضات الرامية لذلك مبكراً، في 11 ديسمبر 1969 قبلت فيها الحكومة الأمريكية الانسحاب من قاعدة “ويلس” الجوية بطرابلس، وهذا ما كشفت عنه وثيقة رفعت عنها السرية من قبل المخابرات المركزية الأمريكية في 3 أغسطس 2005، والتي كشفت عن إجبار مجلس قيادة الثورة للأمريكان على سحب قواتهم وقواعدهم من ليبيا خلال 100 يوم فقط، كما رفضت القيادة الليبية حينها منح الأمريكان مهلة 6- 9 أشهر كمهلة للرحيل.
وفي 11 يونيو 1970 كان الإجلاء الحقيقي غير المشروط لجميع القواعد والقوات الأمريكية، تلبية لنداءات الشعب التي تكررت طيلة ست سنوات من قبل ذلك التاريخ، والتي لم تجد إذ ذاك إلا المماطلة والتسويف من ساسة ليبيا في ذاك الزمان، لتجد في هذا اليوم 11 يونيو 1970 من يلبي نداءها ويعيد ليبيا لحاضنتها العربية ويُرفع العلم الليبي على قاعدة “ويلس” التي ظل العلم الأمريكي يرفرف في سمائها طيلة ما يزيد على العشرون عاماً، ليتم تغيير اسمها إلى قاعدة عقبة بن نافع، ثم إلى قاعدة “معيتيقة” الجوية نسبة إلى الشهيدة “معيتيقة” الطفلة الليبية التي استشهدت إثر سقوط طائرة أمريكية على منزلها.
الحقيقة ومحاولات البعض تزوير التاريخ
ما تقدم هو سرد تاريخي للأحداث والمواقف الخاصة بالقواعد والقوات الأمريكية في ليبيا، والمحاولات التي قادتها بعض القوى الوطنية لإجلائها عن أرض الوطن، وما واجهته من تعنت وصلف من قبل الأمريكان بدعم من الساسة الليبيين لإجهاض إرادة الشعب واعتبار تواجد هذه القوات قدراً لابد منه، وهو بذلك يفند ما يشاع كذباً اليوم من أبواق العمالة والحاقدين عن أن الإجلاء الذي تم في الحادي عشر من يونيو 1970 مرتب له قبل قيام ثورة سبتمبر، وأن قيادة هذه الثورة لم يكن لها أي دور فيه سوى استكمال ما تم الاتفاق عليه وحصاد ثماره!
وإذ نسترجع تاريخ هذه القواعد والتي كافح الوطنيون من أبناء هذا الوطن في سبيل إنهاء هيمنتها ووقف ترويعها للشعب واستخدامها كسيف مسلط على رقاب أشقائنا، وبهمّة وعزيمة الأبطال الشرفاء كان الإجلاء غير المشروط في 11 يونيو 1970.
وإذ نستذكر هذا التاريخ فإن الواقع اليوم يؤكد عودتهم وعودة نفوذهم وجبروتهم من جديد بالتعاون مع العملاء والخونة، فبعض من أبناء الوطن هم من مكنوا لهم العودة إلى قاعدة معيتيقة وقاعدة الوطية وقاعدة مصراته، بل وسلّموا لهم سلطة القرار في بلادنا، وهاهم موظفو السفارات الأجنبية يتحكمون في كل صغيرة وكبيرة في بلادنا اليوم في غياب الوطنية والضمائر الحية والنفوس الأبية التي تأبى الانقياد للمستعمر، واليوم في هذه الذكرى المجيدة نستشعر بالحاجة الماسة لإعادة أمجاد الحادي عشر من يونيو من جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى