مقالات الرأي
انهيار ترتيبات ما بعد انتصار دول الحلفاء
محمد جبريل العرفي :
بعد الحرب تزعمت أمريكا ترتيب العالم حسب مصالحها، في شكل نظام سلطة متكامل؛ تشكل الأمم المتحدة نظامها التشريعي والتنفيذي، فمجلس الأمن هو حكومة العالم، وصندوق النقد الدولي والمصرف الدولي ومنظمة التجارة الدولية كوزارة لاقتصادها، والدولار الأمريكي عملتها، والناتو ذراعها العسكري، ثم محكمة الجنايات الدولية لتكتمل أركان النظام (التشريعية والتنفيذية والمالية والعسكرية والقضائية).
- منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأت هذه الترتيبات في الانهيار، بدءًا من سور برلين وتوحيد ألمانيا.
- ثم شكلت الحرب الأوكرانية منعطفا تاريخيا في تسارع انهيار بقية الترتيبات، ففقدت منظمة الأمم المتحدة فاعليتها، وأصبحت مهددة بالاختفاء إن لم يتم تعديل نظام عملها بوقف هيمنة الدول المنتصرة على قرار مجلس الأمن بتوسيعه وإعطاء دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية والإسلامية حقها في مقعد دائم، ومنح الجمعية العامة مزيدا من الصلاحيات تضفي نوعا من الديموقراطية على عمل المنظمة.
- بدأت ترتيبات اتفاقية بريتون وودز عام 1944، في الانهيار بشكل متسارع بالتخلي عن الدولار كعملة للتبادل التجاري والاستغناء عنه باستخدام العملات المحلية، مما يعني نهاية عصر البترودولار. والضربة القاصمة لهيمنة الدولار هي اعتماد دول البريكس الذهب كعملة للتبادل التجاري، لأن الذهب عملة تحظى بثقة المتعاملين بدلاً من العملات الورقية – رحم الله من اغتالوه لأنه شرع في إصدار دينار الذهب الأفريقي.
- كما بدأت الدول تتخلص من سطوة المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث أنشأت مجموعة البريكس مصرف التنمية الجديد الذي دشن عام 2014 وانضمت له مصر هذا العام، مما ينبئ بانهيار هاتين المنظمتين سيئتي السمعة اللتين كانتا تضعان وصفات سحق الفقراء ودعم أدوات الاستغلال، وترسيخ طبقية مقيتة في المجتمعات، تذكي وتزيد الاضطرابات داخل المجتمعات، وتحول الحكومات إلى شرطة لحماية المستغلين. أما منظمة التجارة الدولية فتحولت إلى جسم هلامي بدون سلطات تنفيذية مما ينبئ بنهايتها.
- الناتو في طريقه للتلاشي لفقدانه أهميته بعد حل حلف وارسو، ونزعة أوروبا للتحرر من الهيمنة الأمريكية والسعي لإنشاء حلف عسكري أوروبي، وتتزعم فرنسا وألمانيا هذا الاتجاه، والأهم من ذلك هو تبرم الشعوب الأوروبية من السلوك الأمريكي ونزعتها للاستقلال والتحرر من الهيمنة الأمريكية.
- بدأت إرهاصات نهاية الكيان الصهيوني، الذي كان أحد ترتيبات الحرب الأوروبية الثانية، كرد فعل على اضطهاد اليهود من قبل النازيين، وليتخلص الأوربيون من شرور اليهود بتجميعهم في فلسطين، وجعل دولتهم خنجرا في خاصرة الأمة العربية، بدأ الكيان يترنح تحت ضربات المقاومة الفلسطينية واللبنانية التي أرعبت بإمكانياتها البسيطة الدولة النووية، فأرغمت ثلث السكان على العيش في الملاجئ، وهددت بتنفيذ عمليات في الجليل المحتل منذ 48، وتسببت في هجرة عكسية مكثفة، والشعب الأمريكي بدأ يفقد التعاطف مع الكيان، الذي تلاحقه لعنة العقد الثامن، حيث انتهت مملكتهم الأولى في العقد الثامن، ومملكة الحشمونئيم انتهت في عقدها الثامن عام 70م. اليمين المتطرف يفجر الكيان من الداخل ويحولها إلى طالبان صهيونية، بينما يسعى لاستعادة الهيبة بمزيد من قمع الفلسطينيين وبالتحرش بإيران.
باختصار العالم الآن يمر بمرحلة تمفصل بانتهاء حقبة التفرد والهيمنة الإمبريالية الغربية وبداية تشكل أقطاب جديدة وتكتلات اقتصادية وسياسية جديدة.
والآن لنسأل: كيف تستفيد بلادنا ومنطقتنا من هذا التغير؟
هذه ممكن استثمارها لصالحنا بألا ندخل في اصطفافات مع أي قطب، وأن نجنب بلادنا أن تتحول لساحة حرب أوروبية ثالثة – مثلما كانت في الثانية والأولى- وأن نغل يد الأجنبي عن التدخل السلبي في شؤون بلادنا. لكن الجهل والطمع يدفعان جل من في المشهد إلى الارتماء في حضن الغرب، والتفريط في سيادة البلاد ونهب مواردها، وجر البلاد إلى حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، مما يزيد في تمديد الأزمة وإطالة أمد معاناة الشعب الليبي.
الفرصة سانحة الآن لتشكيل قطب عربي، ينتهج سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز. التعويل على السعودية بقدراتها الاقتصادية والروحية ومصر بثقلها البشري والثقافي والجزائر بتاريخها النضالي، هذا كان مطلبا منذ التفكير في إنشاء الجامعة العربية عام 1945 إلى الدعوة للوحدة العربية التي قادها عبد الناصر في الستينيات، واستلم أمانتها من بعده معمر القذافي، فكانت قمة سرت في 2010.10.10 وقمة جدة 2023 خطوات في هذا الاتجاه، رغم أن النظام القطري لم يتخلص من تبعيته لجماعة الإخوان وعمالته للغرب، فكانت مسرحية انسحاب تميم أثناء كلمة بشار، وإيواؤه للمعارض السعودي المهرب من السجن، واستمرار دعمه لإخوان مصر، وتآمره مع بريطانيا باتهام القوات المسلحة العربية الليبية بضلوعها في السودان، كلها علامات على عدم صدق نية النظام القطري في التئام الصف العربي.