الخيارات العربية.. والنظام الدولي
محمد بوخروبة :
يمر النظام الدولي بفترة مفصلية أشبه ما تكون بالمرحلة الانتقالية، نتيجة عدد من المتغيرات العالمية على رأسها تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والانسداد في كثير من الملفات الدولية، وتراجع النظام الاقتصادي العالمي، الأمر الذي يجعل العالم في ترقب لمآلات هذه الأحداث وانعكاساتها على مستقبل النظام الدولي، بحيث قد تؤدي إلى تغير شكله الحالي من أحادية القطب، إلى شكل آخر يقترب من التعددية القطبية، في ظل هذه التغيرات تبقى دول الخليج والشرق الأوسط، في حالة من الترقب والاستعداد لنتائج هذه الأحداث، مع الموازنة في خيارات التعامل بين النظام الدولي الحالي والقوى الصاعدة.
الولايات المتحدة، بين التشتت الخارجي والضعف الداخلي.. فمنذ تفكك الاتحاد السوفييتي أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القطب الأول في العالم، وبات العالم خاضعاً للهيمنة الأمريكية، ولا سيما منطقة الخليج باعتبارها أكبر منتج للنفط، لكن وبعد تخفيض الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة، ولتنامي الحضور الصيني في المنطقة، تتنوع المشاريع الصينية في المنطقة ما بين مشاريع اقتصادية وثقافية، وبوادر مشاريع سياسية وأمنية، تسعى من خلالها الصين لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، المتمثلة في الحد من الاحتكار الأمريكي للمنطقة، وموازنة الحضور الغربي وإيصال رسائل ناعمة للتشكيك في جدية الموقف الغربي، وتحميله بطريقة غير مباشرة مسؤولية الأزمات التي تعيشها المنطقة، وتسويق الصين بأنها تسعى لتعزيز السلام العالمي، وعلى المستوى الإقليمي تهدف الصين إلى الاستفادة من الأهمية الاقتصادية والسياسية لدول الخليج، والدول العربية كافة، ومحاولة كسب ثقة الأطراف الإقليمية المتناقضة، سعيًا لتبني مواقف سياسية لتسوية أزمات المنطقة.
بناء على ذلك، يظهر أنَّ هناك حالة من الانسداد في كثير من الملفات الدولية، ووصولها إلى ذروة التصعيد السياسي والاستقطاب الدولي الحاد، الذي قد يؤدي لمواجهات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة، أو الدخول في تحشيد سياسي وعسكري يؤدي إلى توازن الرعب، وكلا الاحتمالين قد يعيد تشكيل النظام الدولي بطريقة مغايرة عما هي عليه الآن.
ونظراً للأهمية السياسية والاقتصادية لدول الخليج ودول الشرق الأوسط والمغرب العربي، فإنها تعد ساحة للصراع الدولي، ومركزًا لتحديد المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، ويبدو أن وجود التعددية القطبية بدلاً من هيمنة القطب الواحد يخدم الاستقرار العالمي السياسي والاقتصادي، ولا يفَرَض حالة من التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
كما أن الصين وروسيا تفضل التعامل مع دول الخليج ودول شمال أفريقيا دون التدخل في شؤونهم الداخلية مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الدافع يمثل إغراء للدول العربية، ويوفر هذا الخيار نوعاً من الاستقلالية لهذه الدول في تبني مواقف خاصة بعيداً عن ضغط الأطراف الدولية.
التحولات المتسارعة في سير الأحداث السياسية العالمية، واشتداد المنافسة بين القوى الدولية الكبرى، قد تجعل أنماط النظام الدولي المتوقع مختلفة عن الشكل الشامل، وعليه قد تتيح هذه الحالة بناء قطب إقليمي، إذ يفترض هذا الخيار أن تسعى الدول العربية لتذويب الخلافات البينية، وتوسيع التحالفات لبناء قوة ذاتية، ووحدة عربية شاملة، ودوافع هذا الخيار هي مقومات المنطقة السياسية وموقعها الجغرافي الهام، الذي تستطيع أن تتحول من خلاله من ساحة للتنافس الدولي إلى متحكم بعملية التنافس، وتحويل قدراتها الاقتصادية والنفطية إلى أوراق ضغط بطريقة غير مباشرة.
إن حالة عدم الاستقرار والتخبط وتشتت الأهداف التي تعيشها عدد من الدول العربية، والصراع السياسي والعسكري والضعف الاقتصادي، سمحت بثغرات سياسية وأمنية وحضور المشاريع الدولية والإقليمية، فبينما تقترب دورة الصراع من نهايتها على وقع توقف التصعيد المسلح في بعض الصراعات العربية مثل حالة ليبيا، وتراجعها إلى أدنى مستوى في حالات أخرى مثل سوريا واليمن، لم تبدأ بعد عمليات التسوية السياسية الفعلية لهذه الأزمات رغم تنامي الحديث عن التسويات في الفترة المقبلة، وتُشير العديد من المؤشرات والتفاعلات السياسية إلى أن هناك إمكانية لبدء عملية تسوية ما بعد حالة التهدئة التي تشكل القاسم المشترك المرحلي في هذه الملفات، وبالتالي يمكن الحديث عن أن المرحلة الحالية هي مرحلة “إدارة التهدئة”، ومع ذلك يمكن القول إن عملية التهدئة أو مسارات التسوية المقبلة تتوازى مع رسم مناطق النفوذ الدولي.
وعلى الصعيد الليبي.. عودة الانخراط الأمريكي في بعض الملفات بشكل كلي أو جزئي، على نحو يبدو جلياً في عودة الاهتمام الأمريكي بالملف الليبي، ومع ذلك، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الأولوية الأمريكية هي تقويض الدور الروسي في ليبيا خلال المرحلة الحالية، ظهرت ملامحه في التقارب مع القيادة العامة، وتبع هذا التقارب الأمريكي أيضا تقارب إيطالي، تمثل في زيارة القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر إلى روما، ويركز كلا الطرفين بالإضافة إلى القوى الغربية عموما، على الملف السياسي وإمكانية الوصول إلى انتخابات، كما تدعم واشنطن جهود الحل السياسي على الرغم من أن بكين أصبحت منافسا قويا في هذا الصدد.