متطلبات إعمار الاقتصاد الليبي في فترة ما بعد الانقسام السياسي
عثمان يونس –
كانت وما زالت جميع المراحل الانتقالية التي مرت على ليبيا بعد الأحداث التي اجتاحتها في 2011 هشة للغاية، وتأكدت هشاشتها بالانقسام السياسي الذي ساد المشهد، وتوج بإلغاء الانتخابات التي كانت مقررة في ديسمبر 2021. غير أن بعض التطورات الإيجابية التي حدثت خلال الفترة الماضية ومن بينها التقارب بين المؤسستين العسكريتين في المنطقة الشرقية والغربية أشارت إلى إمكانية إنهاء الصراع الذي احتدم لعدة سنوات، كما أن احتمالات إعادة التوحيد والاستقرار في المستقبل قد أثارت بالفعل التفكير والخطط لإعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد فترة الصراع، وخاصة الإعمار الاقتصادي، الذي هو إحدى المهام الأساسية التي تنتظر ليبيا بمجرد أن تطوي صفحة الصراع، إذ ستواجه البلاد المهمة الضخمة المتمثلة في إعادة بناء اقتصادها وبنيتها التحتية، وكلاهما مزقته سنوات من الصراع والعنف، والنهب والفساد.
مما لا شك فيه أن إعادة الإعمار الاقتصادي بعد سلسلة الصراعات عملية معقدة وطويلة، ومع ذلك، فإنه يوفر للبلاد الفرصة لوضع الأسس لنموذج اقتصادي جديد وأكثر استدامة، ولا يعيد إنتاج نقاط الضعف والمخاطر للنموذج السابق المعتمد على النفط والصناعات البتروكيماوية، إذ تتمتع ليبيا بفرصة بناء اقتصاد جديد أكثر تنوعًا وتوجهاً نحو تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة والنمو.
لقد دمرت الحروب والصراعات الاقتصاد الليبي طيلة اثنتي عشرة سنة مضت، حيث سمح الانهيار شبه الكامل للدولة وتشرذم السلطة في أعقاب أحداث فبراير 2011 وتدخلات الناتو لتدمير مؤسسات الدولة، كل ذلك سمح بظهور اقتصاد حرب قائم على العنف والافتراس، تنافست فيه مجموعات مختلفة وداعموها الدوليون لنهب ثروات البلاد والسيطرة على طرق التهريب، وعلى منشآت إنتاج وتصدير النفط والغاز.
حسب التقارير الدولية فإن ليبيا تقبع على أكبر احتياطيات نفطية معروفة في إفريقيا، ولطالما شكل النفط مصدر دخلها الرئيسي، لكن في سنوات ما بعد الأحداث الدامية في 2011، أصبح ما كان مصدر ثروة في يوم من الأيام مصدراً للضعف وأحد المحركات الرئيسية للصراع، إذ سعت جهات فاعلة عدة للاستيلاء على قطاع النفط والسيطرة عليه، حيث تسبب الحصار المفروض على إنتاج النفط وتصديره في خسائر فادحة في الإيرادات، كما أدى الصراع والانقسام السياسي أيضًا إلى حدوث انقسام داخل المؤسسات الاقتصادية والمالية الرئيسية، بما في ذلك مصرف ليبيا المركزي، كما أدى عدم وجود ميزانية وسياسة نقدية موحدة إلى تراكم الديون، ومع تعثر النظام المصرفي، تعرضت ليبيا مرارًا وتكرارًا لأزمات سيولة حادة بين عامي 2015 و2020، ووضع الانكماش الاقتصادي ضغوطًا على العملة الليبية، وازدادت الفجوة بين أسعار الصرف الرسمية وغير الرسمية، مما أدى إلى انخفاض قيمة العملة في عام 2021، كما أثر الوضع الاقتصادي السيئ بدوره على الظروف الاجتماعية وتوفير الخدمات العامة للمواطن.
إذا ما انتهى الصراع تحتاج البلاد إلى إعادة بناء اقتصادها وبنيتها التحتية، وكونها دولة خارجة من الصراع، فإنها ستواجه العديد من التحديات، بدءاً من تفكيك اقتصادات الحرب ولجم المفسدين، وانتهاءً باستعادة الخدمات الأساسية لإعادة بناء الاقتصاد على أسس جديدة ومستدامة، وبناء هياكل اقتصادية جديدة، كل ذلك للحفاظ على السلام وتحقيق النمو والتنمية الاجتماعية والاقتصادية العادلة.
هناك العديد من الدلائل على أن إعادة بناء الاقتصاد الليبي تسير على طريق التحرير الاقتصادي، ومع ذلك، فإن الخصخصة وتحرير السوق يحملان العديد من المخاطر عند تنفيذهما في البلدان التي مزقتها الحروب، حيث لم يتم بعد تعزيز سيادة القانون والمؤسسات، إذ يحد ضعف مؤسسات الدولة الرسمية من قدرتها على الإشراف على عمليات إعادة الإعمار، وبالتالي خلق فرص للفساد في إسناد عقود إعادة الإعمار، كما أن الشبكات غير الرسمية والهياكل الاجتماعية (بما في ذلك الهياكل القبلية) تميل إلى الغلبة على مؤسسات الدولة الرسمية، وما لم تؤخذ عملية بناء المؤسسات على محمل الجد، فإن عملية إعادة الإعمار الاقتصادي ستحدث في سياق ضعف الدولة مع ضمانات محدودة ضد الفساد.
من غير الواقعي بالطبع توقع تحول سريع بعيدًا عن النفط على المدى القصير، بسبب صعوبة كسر الاعتماد عليه من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى الحقائق الخاصة بالنزاع والإلحاح في المجتمعات التي مزقتها الحروب، وإعادة بناء البنية التحتية وخلق فرص العمل والاستثمار في التنمية، علاوة على ذلك، فإن اشتداد المنافسة الدولية على قطاع الطاقة في ليبيا وتزاحم عدد من الدول لضمان أمن طاقتها وحماية مصالحها الاستراتيجية هو حقيقة يجب أن يحسب لها أي تحول في السياسة الاقتصادية، في حين أن استخدام عائدات النفط لدعم التحول على المدى القصير أمر مهم، إلا أن بذل جهد متزامن لبناء نموذج اقتصادي بديل ضروري لتجنب إعادة إنتاج الديناميكيات المعتادة للاعتماد على النفط والاقتصاد الريعي.
إن تحقيق اقتصاد أكثر تنوعًا في ليبيا لا ينفصل عن الحاجة إلى بناء اقتصاد حديث قائم على المعرفة، يقدّر رأس المال البشري، ويسخر إمكانات التقنيات الجديدة، كما أن التواصل يمكن أن يساهم في تقديم خدمة سهلة ومنصفة، وهو أمر بالغ الأهمية في بيئة ما بعد الصراع.
وأخيراً فإن إعادة بناء الاقتصاد الليبي تستلزم البناء على أسس جديدة ومستدامة لمواجهة عديد المخاطر والتحديات، منها المخاطر والشكوك المتعلقة بما إذا كانت البلاد ستنجح في طي صفحة دامت ما يزيد على العقد من الصراع وإعادة توحيد مؤسساتها وتعزيزها، كما أن هناك مخاطر مرتبطة بعملية إعادة الإعمار الاقتصادي والتحديات متعددة الأبعاد التي تجلبها، ويبقى الأمر في يد الليبيين إن كانوا يريدون إعادة بناء الدولة على أسس صحيحة تعتمد الإعمار الاقتصادي كأساس للاستقرار وإنهاء أزمة تتفاقم كل يوم بعيداً عن التدخلات والمصالح الأجنبية التي لا تنتج إلا مزيداً من الصراعات.