مقالات الرأي

مشروع الدولة المؤجل

محمد بوخروبه –

الكثير منّا رهينة الخداع الذاتي، يتصرف دون إدراك منه، إن ما يفعله قائم على إرضاء الآخر بدلاً من ذاته، إنه يعمل من أجل أن يتلقى استحسان الآخرين وتصفيقهم، وعندما يشبع من هذه المظاهر الكاذبة المخادعة، يكتشف أن الرغبات لم تكن جزءًا من رغبة داخلية أو حاجة تفرضها الغاية الذاتية، إنما حاجة خارجية، أغلبنا يعيش هذا التشويش، بين إرضاء الغايات الحقيقية أو تلبية حاجات جنون العظمة القابع في أعماقنا.. الأصيل وحده هو الذي لا يهمه ربت الآخرين على كتفه، إنما العمل الجاد على تلبية قناعة داخلية أصيلة كامنة في داخله..
الشر ما هو قراطية.
شرٌّ وَصَلَ إلى التباهي بأخْذ الوطن إلى جهنم، وإفقار الناس والإمعان في إذلالهم، ليس فقط بحاضرهم، بل بمستقبل أجيالهم، شرٌّ تَمَثَّلَ في استغلالِ معاناة الناس باتجاه حشْرهم في مساحاتهم المناطقية المقيتة، كون زعيم الميليشيا الفولاني وعطاياه ومِنَحِه وإكرامياته قد يكون «تصبيرةً» في غياب الدولة.
أما المنظومةُ الحاكمة (ما هو) فهي اتفقتْ على أمريْن لا ثالث لهما.. الشراكةُ في المَناصب والسرقات والصفقات وحصص المساعدات، وبالتالي إن تَحَقَّقَ هذا الأمرُ فإن الميثاقيةَ بخيرٍ والبلد بخير، أو تهديدُ الاستقرارِ كلّ لحظةٍ إن تم اختراقُ هذه الشراكة، فتصبح الميثاقيةُ في خبرِ كان، والمناطقية في خطرٍ، وحقوقُ المجموعات الدينية مُنْتَهَكَة.
لا يقال في ليبيا إن سلوكَ هذا المسؤول أو ذاك أَوْصَلَهُ إلى الخسارةِ مثلاً، بل يَختبئ خلْف منطقته وقبيلته ويُطْلِقُ نفيرَا وتَصْدَحُ شعاراتٌ من وَزْنِ ممنوعٌ ضرْبُ النسيج، والفيدراليةُ وأخواتُها هي الحلّ.
أما المُضْحِكُ المُبْكي فهو أنه إذا ربح المسؤولُ في ميدانِ السلطةِ يَتَصَدَّرُ بشخصه وتتوارى القبيلة والمناطقية والإقليمية الضيقة.. ويقال إنه أذكى مَن فيها، وإنه ديناميكي وخبيرٌ وشاطرٌ ومُلْهِمٌ ويستحقّ كل الثروة التي هبطتْ عليه.. والعقارات التي امتلكها.

قراطية.. أي ديمومة كراسي المنظومة الحاكمة في الوطن، ومن المفارقات أن هذا هو الإطار الأقوى الذي صَمَدَ رغم كل حملاتِ التراشُق والتخوين وحتى الاشتباك المسلّح وسقوط ضحايا.. هو الضلعُ الذهبيّ الذي فَرَضَ الاتفاقَ وشَبْكَ الأيادي من فوق.. بينما الوطن يتدحْرج إلى قاع جهنّم من تحت.
أما نظريةُ أن لا مصلحةَ للمنظومةِ في ديمومة التوافق على الانهيار كونه سيطول الجميع.. فهذا كَذِبٌ بيّنٌ وذرٌّ للرماد في العيون.
الشر ما هو قراطيه.. هي ديمومةُ كراسي منظومةِ الشرّ في ليبيا وليس تَداوُل السلطة الحضاري والعلمي بالمعنى الذي أرادتْه الديموقراطية.. وهي تتجلّى في مسرحيةِ كل الانتخابات السابقة.. وكأن هذا الاستحقاق سَيُحْدِثُ فارقاً بين سين وجيم من المرشّحين.. قواعدُ المنظومةِ حوتٌ يبتلع المبادرات والاستثناءات إن حصلتْ في الشر ما هو قراطيه وكأنه يريد تخصيبَها داخلياً إلى الحد الأقصى ثم تصديرها للآخَرين.. لتدميرهم.
الديمقراطية على المستوى الفردي تقول: عليك أن تتقبل رأي الآخر برحابة صدر.
أن لا تجيش نفسك أو غيرك على رجمه أو طعنه أو نبذه.. عليك أن تأخذ مسافة تحاوره ولا مشكلة أن تناقشه.. إن إهمالك له أو رجمه في السر أو العلن يدل على العدوانية في داخلك.. وأنك تختزن تكوينًا نفسيًا عصابيًا يحتاج إلى علاج.. تعامل مع النص على أنه نص عائم في الفضاء.. يحتاج إلى يد حنون توقظه من عيوبه.. حاوره كما تحاور طفلك الصغير بفرح ورحابة صدر بالرفقة الحسنة.. تعامل مع النص كأنه صديقك.. أخوك، وبهذا الحوار ستستطيع أن تكتشف العيوب والنواقص فيه.. الغضب لن يدخلك إلى بيت العافية.. بل سيبعد عنك حاجتك إلى المعرفة.

زر الذهاب إلى الأعلى